ظـنِّـيـَّة قرار السياسة الشرعية ويقينية فرض الجمعة جواب الشُّبَه السارِحة في أيام الجائحة

أولا: شبهة وعرضها:

كيف تعطل الجمعة في  مساجد  عمان والزرقاء، في الحظر الشامل بينما نشهد انتشارا واختلاطا في الجامعات والأسواق، ويباح ذلك في بقية أيام الأسبوع أليس هذا تناقضا، وترجيحا للظني على القطعي؟ وواضح من طرح هذه الشبهة أنها تقوم على ترجيح بين حكمين أحدهما يقيني والآخر ظني، ولكن الأمر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله.

ثانيا: الـحُمَـة التاجي (فيروس كورونا) وارتباكات التدين:

تحدثت سابقا عن حالة الارتباك الواضح في المثلت: ( الفقهي، السياسي الشرعي، والفني الطبي) وأن أزمة الْـحُمَـة التاجي (فيروس كرونا)، لم يُظهر عيب الحضارة التقنية المعاصرة فحسب، بل أظهر أنماطا من التدين كانت خافية، وأظهر الوباء حدة ارتباكها، وظهرت  صلاة الجمعة في البيوت وما إلى ذلك من التغيير الذي وقع على حقائق شرعية ثابتة، وأصبحت الشريعة تدور مع الواقع، بدلا من أن يدور الواقع معها.

ثالثا: تأثير الظن في المانع للعذر من القيام بالواجب:

إن البحث في المسألة هو في قيام المانع بالعذر من الحكم الواجب،ونقول إن إقامة الجمعة واجبة بشرط انتفاء المانع، أما ذا قام المانع ظنا فهو عذر كاف في عدم إقامة الواجب يقينا، وفيما يأتي فروع شرعية على كفاية الظن في المانع للعذر في إقامة الواجب:

1-إذا خافت الحامل على جنينها جاز لها الفطر في رمضان، وخوفها ظن والصوم واجب يقينا.

2-إذا خاف المريض بالغسل للعضو في الوضوء والجنابة، تأخُّر برء، أو زيادة مرض، فإنه يمسح ولا يغسل، وخوفه ظن والغسل واجب يقينا.

3-جاز لمن دعي لوليمة عرس أن يتخلف إذا خشي على نفسه مرضا أو هلاكا، كإطلاق نار مثلا، فقد تقينا الواجب، ولكن قام المانع ظنا لا يقينا، فقام العذر بترك الواجب.

4-منع الفقهاء المجذوم وبه مرض مُعْدٍ من حضور الجمعة والجماعة لظنٍ وهو خشية العدوى، والجمعة واجبة وخشية العدوى ظن.

5-جاز للمريض أن يتيمم مع وجود الماء يقينا وفرض الغسل يقينا إذا خشي المريض تأخر الشفاء، أو زيادة مرض، وكانت خشية المرض ظنا وسقط بذلك واجب يقيني وهو الغسل لقيام المانع ظنا.

والأمثلة هنا على سبيل التمثيل وتكاد لا تنحصر.

رابعا: تحقق الشرط وانتفاء المانع:

لإقامة الجمعة لا بد من تحقق الشرط ونحقق انتفاء المانع، وهكذا في كل واجب شرعي، وينبغي أن يكون البحث في العذر بترك الجمعة في أحكام المانع وأن الظن كافٍ في العذر، وهو قائم على البحث في الشك في الأسباب والشروط والموانع، ومدى تأثيرها في الأحكام الواجبة اتفاقا والمجمع عليها، وقد لاحظنا (انظر ثالثا) أن قيام المانع ظنا مؤثر في العذر الشرعي من القيام بالواجب، وليس ترجيحا بين حكم واجب اتفاقا، وحكم آخر ظني اتفاقا، بل نحن في نقاش في حكم واحد لكن نقاشنا في مدى تحقق الشروط والأسباب والموانع في حكم صلاة الجمعة في الوباء، ولسنا في حالة ترجيح بين حُكْمين مختلفين: أحدهما ظني والآخر يقيني على النحو الذي طُرِحت فيه الشبهة السابقة.  

خامسا: مزيد من التوضيح في بناء قرارات الولاية العامة:

إن الخلل ممكن أن يظهر، بأن يعتقد الناظر أننا أمام ترجيح بين حكمين مختلفين، وهو وجوب إقامة الجمعة، وقرار السياسة الشرعية الظني بإقامة الجمعة، فيتوهم الناظر أن المسألة هكذا، وهذا خلل واضح في بناء الحكم الشرعي مع الفني الطبي، ثم بناء قرار السياسة الشرعية والولاية العامة في الموضوع، وهذا خلل منهجي لا جزئي سيظهر في حالات أخرى.

1-المرحلة الأولى: تركُّب الفقهي مع الطبي:

نحن في بحث فقهي وطبي حيث قام مانع الخشية الظني وعذر الشارع  المريض ننزل الحكم الشرعي على المريض بعذره، ولو كان المانع في رتبة الظن والحكم الأصلي في رتبة الوجوب، وعليها يكون الفقيه قد أنزل حكما واحدا على المريض هو العذر لقيام المانع، وليس الحكم بالوجوب لإقامتها مع انتفاء المانع، والشبهة السابقة قائمة على افتراض وجود هذين الحكمين في موضوع الترجيح، والحقيقة نحن أمام حكم واحد هو قيام المانع ظنا في العذر بترك الجمعة، وهو ما ستبنى عليه السياسة الشرعية لاحقا.

2-المرحلة الثانية: بناء السياسة الشرعية:

أ-تقوم اللجان الطبية المسؤولة مع جهات الولاية العامة صاحبة القرار  باستلام نتيجة البحث في المرحلة الأولى من الفقيه، وهو قيام العذر بإقامة الجمعة لظنية المانع، وتبْني اللجنة القرار على ضَوء مصلحة المسلمين العامة وضروراتهم، وعليه فهي ليست أمام حكم يقيني وآخر ظني، ورجَّحت الظني على اليقيني، بل هي أمام حكم واحد قيام العذر في إقامة الجمعة لوجود المانع، وهو نتيجة البحث في المرحلة الأولى.

 ب-وإذا رأت اللجنة الطبية الـمُخوَّلة بالنظر أن في ذلك خطورة على المجتمع وَفق الفَـنِّـيَّـات المختصة في علم الأوبئة ، فإنها توصي باتخاذ قرار يتناسب مع الحالة، وتقدَّر حالة العذر بقَدَرها، ولا يجوز التوسع في فيها فوق الضرورة، كما لا يجوز للماسح على الجبيرة أن يمسح على ما لا يحتاجه الجرح في ربط الجبيرة، وإذا رأت لجنة الأوبئة في الحظر في محافظة دون أخرى فهذا صحيح ولا يتوسع في ذلك كما قلت في الجبيرة، لأنه توسع يهدم العزائم الشرعية، والظن في المانع مؤثر كالظن في عدم الشرط، وإذا كانت قرارات لجنة الأوبئة مبنية على متواليات رياضية، ومعرفة البؤر الوبائية المتكاثرة فهذه معطيات غائبة على عموم الناس.

ج-أما دور الأطباء والفقهاء خارج إطار السياسة الشرعية فهؤلاء يبقون على النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، ولكنهم لا يستبدون بإبطال الأحكام الشرعية، مادامت تقوم على منهج فقهي ينسجم مع معطيات السياسة الشرعية، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، والتشكيك في ذلك يؤدي إلى تناقضات مجتمعية قد تؤدي بهلاك الناس وتفرق الجماعة، وهم حينئذ يكونون مسؤولين شرعا عن تفشي الوباء وهلاك الناس، وكانوا في عذر من الله تعالى ولكنهم بدلوا نعمة الله عليهم وقذفوا بالغيب من مكان بعيد، وحملوا أرواح الناس وكان في غنى عن ذلك.

د- إن الذين تجرؤوا على منصب الأئمة المجتهدين، واقتحموا ساحة الشريعة معاجزين ، لن يعجزوا عن اقتحام التخصص الطبي، وسينصبون أنفسهم أطباء، بل ومتخصصين في الأوبئة! كما نصبوا أنفسهم سابقا مجتهدين! وشاعت الفوضى في الفتوى، ستنتقل إلى الطب، وتهدِّد حياة الناس بالاجتراء التخصص الفني الطبي، دون تحمل مسؤولية، والخلل في الكلي ليس كالخلل في الجزئي.

مقالة ذات علاقة: 

علاقة العزيمة بالرخصة في ترك الجمعة أثناء الأوبئة

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

  16-محرم -1442

  9-4 -2020

2 thoughts on “ظـنِّـيـَّة قرار السياسة الشرعية ويقينية فرض الجمعة جواب الشُّبَه السارِحة في أيام الجائحة

  1. سبتمبر 4, 2020 - Khalil al nasa'h

    جزاك الله خيرا ونفع بك وادامك حصنا حصينا للدين واهله

  2. سبتمبر 4, 2020 - غير معروف

    موفق باذن الله تعالى دكتور دولي مصطفى شاويش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top