البيع الآجل (الترميش) نموذجا للإخلال بين الكلي والجزئي في الشريعة حيل البَعاجِلة والنعجة المستعارة

أولا: تمهيد ببيان صورة البيع الآجل:

1-صورة البيع الآجل (الترميش):

ملخص العملية أن يبيع رجل سيارته بشيكات أو كمبيالات إلى أجل وليكن أربعة أشهر مثلا، بثمن أعلى من قيمتها السوقية،  وبعد أن يستلمها المشتري يقوم بعرضها للبيع بأقل من قيمتها في السوق، استعجالا للسيولة، وتأجيلا لمشكلة السداد، ويمكن لصاحب السيارة أن يعاود شراءها بثمن أقل من الثمن الذي باع به السيارة، التي أصبحت تأخذ دور النعجة المستعارة في المعاملات وهي أخت التيس المستعار في زواج المحلل، وهذا يعني أنه حقق ربحا من بيع سيارته، ثم استردها  كونه أعلم بها وبما تستحق، وقد أطلق على هذه العملية الترميش، نسبة إلى عائلة “أبو الرمش”.

2-الـبَـعَاجِلَة:

بالرغم من أنني هممت بحذف هذه المفردة مرارا، خشية أن أظن في نفسي أنني من المتكلفين، ولكن هذه المفردة مرت طيفا في خاطري وحسْب، فإن ترجَّح لي مستقبلا حذفها فسأفعل، وهذه الكلمة نحتُّها  من الفعل باع وأجل، وقد ورد نحتُ فِعلين معا في القرآن الكريم: في قوله تعالى: (وإذا القبور بُعثرت)، أي بعثت وأثيرت، من الفعلين: بعث وأثار على قول، والتاء في البعاجلة مبدلة من ياء النسب في بعجلي، كدمشقي ودماشقة، ومغربي ومغاربة، واستعملت هذا المنحوت طلبا للاختصار، ولأريح حاسوبي ونفسي من كثرة الطَّرق على الحروف.

ثانيا: تفاعلات الأزمة:

لم يكد مجتمعنا الأردني يفيق على نكبة البورصة الاقتصادية، حتى أطلت مشكلة البيع الآجل برأسها ، بسبب أن العملية لم تكن اقتصادية رشيدة، كما هو معروف أن الإنسان يتوصل بالنقود إلى السلع،  ولكن أصبحت السلعة وسيلة للتوصل للنقود  وحيلة إليها، ولم تبق الأزمة حبيسة الديون المتعثرة التي هي نتيجة طبيعية للطيش المالي الذي يجتاح العالم، بل أصبحت تقلق السلم المجتمعي، الذي هو مقصد معتبر شرعا، خلال قوله تعالى : (الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف)، ولا بد هنا من التحذير من الفتنة الاقتصادية النائمة، وما زالت في فترة البيات الشتوي، وتوشك أن تتحوى وتتلوى، وهي شركات التسويق المعروفة بيوني سيتي، وكيونت وغيرها، ولا بد من محاربتها قبل أن يشتد سمُّها، وهي أسوأ من البعْجَلَة، لأن شركات التسويق لم تسلم في بنائها الفقهي، ولا في مقاصدها، ولا في مآلاتها.

ثالثا:دور الفتوى في الموضوع:

يتمثل دور جهة الفتوى والجهات العلمية الشرعية البحث في حقيقة المسألة، ولكننا إذا نظرنا إلى العقد نفسه من حيث أركانه وشروطه الشرعية وجدناه وافيا سليما، سواء في البيع الأول أم في البيع الثاني من تاجر البيع الآجل، يعني أن الأدلة الجزئية فيما يتعلق بصحة البيع من حيث توافر أركانه وشروطه قد تحققت، يعني أن المتعاملين في هذا البيع لم يُـخِلُّوا بأدلة شرعية تفصيليه المتعلقة بصحة العقد، وهذا لا يعني أنه لا توجد هناك اختلالات أُخَر، من الناحية الشرعية، وهنا أبين الاختلالات الواردة على هذه المسألة، وهو الاختلال في الكليات.

رابعا:الاختلالات في الكليات:

1- الإخلال بين المقصد الكلي والحكم الجزئي:

جعل الله تعالى النقد وسيلة للوصول للسلعة، ولكن المبادلة في هذا البيع عكست الأمر، وأصبحت السلعة وسيلة للنقود، ولم تعد السلعة لتلبية الرغبة والحاجة  المقصودة من السلع، التي تشبع رغبات الإنسان المادية وحاجاته، وأخذت السلعة دور النقد، وأصبحت السلعة وسيطا لتبادل النقود، خلافا للظرف الطبيعي وهو أن النقود هي السكة التي تسير عليها قافلة السلع، وهنا نكون قد أصبحنا أمام حالة معكوسة تتنافى من القصد من تشريع البيع، وهو حاجة الناس إلى ما في أيدي بعضهم بعضا من السلع، فشرع البيع لإباحة تبادل تلك السلع والأثمان.

2-الإخلال بين النظر في المآلات والجزئيات :

لم يخالف البعاجلة مقاصد الشريعة من إباحة البيع فحسب، بل خالفوها أيضا في المآلات، وإن كان العقد مشروعا في نفس الأمر من حيث الأركان والشروط، ففي القرآن الكريم ثلاثة مواضع نهى الله تعالى فيها عن مباح في نفسه،  نظرا للمفاسد في المآل، وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)، بسب اتخاذ اليهود هذه الكلمة في مقاصد خبيثة بمعنى الرعونة بدلا من معناها الظاهر وهو (انظُرْنا)، وقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، فنهى عن سب الآلهة الباطلة والفاسدة، حتى لا يكون ذلك ذريعة لسَبّ الإله العظيم سبحانه، وكذلك أمر الله  تعالى الصحابة -رضي الله عنهم- بغَضّ الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطابهم لبعضهم، حتى لا يصبح رفع الصوت بين بعضهم بحضرته ذريعة إلى رفع الصوت  فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم.

خامسا: ضرورة انتظام منافذ الشريعة (الفتوى والقضاء  والسياسة الشرعية) على الواقع:

إن الفتوى بوابة من بوابات نشر العلم الشرعي، وهي غير ملزِمة بل مبينة ومعلمة، ولوأفتي بالتحريم فإن المشكلة ستبقى قائمة لعدم وجود إلزام بها، ولكنها مفيدة في البيان الشرعي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن البيان الشرعي هنا لن يكون مستقلا عن السياسة الشرعية، المسؤولة عن تقدير الآثار السلبية لممارسات البعاجِلة على الاقتصاد الكلي، والعِبْء الذي يمكن أن يتحمله القضاء والأمن، للنظر في تبعات قضايا الديون المتعثرة، التي تعدَّت كونها حالة فردية، وأصبحت حالة اجتماعية عامة تقلق السِّلم المجتمعي، نتيجة تعريض إحدى الضروريات الشرعية الخمس للخطر، وهي ضرورة حفظ المال، ومن ثم إن السياسة الشرعية ينبغي أن تتدخل بقوة الإلزام لوقف المتبعجلين من ممارساتهم الاقتصادية الضارة، التي تزيد من حجم الديون المشكوك فيها، في المجتمع وتعريض أموا ل المجتمع للخطر، لأن أفراد المجتمع غير قادرين على تقدير الآثار السلبية العامة على الاقتصاد الكلي والسِّلم المجتمعي بسبب الإغراءات التي يقدمها المتبعجِلون.

سادسا: نماذج أخرى ينبغي أن ينتبه إليها في السياسة الشرعية:

إن الكوارث المالية من الأزمة المالية العالمية والبورصة في الأردن ، هي ناشئة من الفجوة بين الإدارة والملكية، فمن يدير لا يملك بل يستقطب مال المجتمع، ومن يملك المال لا يدير، مما يعني أن خطر الخسارة لا يعني المدير في خسارة رأس المال، لأن المال ليس ماله، وأمر آخر وهو التمويل المظهري المزيف على كماليات كالهواتف الذكية، والشاشات المسطحة الكبيرة، بينما يعاني قطاع الزراعة من جفاف في التمويل.

وهنا تقدر السياسة الشرعية  أولويات التمويل، وتفرض على المصارف أن تبلغ نسبة تمويلية لسد حاجات قطاع الزراعة عالي المخاطر، وفق ما هو معروف في السياسة النقدية بالسقوف الائتمانية، وقد فصلت ذلك في كتابي السياسة النقدية بين الفقه الإسلامي والفكر الاقتصادي الوضعي، فلا بد للسياسة الشرعية أن تتدخل بقوة، مراعاة للصالح العام، ولحماية المجتمع من  المغامرين في أمواله، والمقامرين على أقواته، وأرجو من الباحثين في السياسة الشرعية أن يعطوا أولوية للبحث في النماذج التطبيقية للسياسة الشرعية، وعدم الاكتفاء بالبحث النظري فقط، لأن السياسة الشرعية هي أحد منافذ الشريعة الثلاثة على الواقع، وليست تنظيرا فكريا فقط.

مقالة ذات علاقة: شركات التسويق الشبكي والنَّعجة المستعارة تعددت الأسماء والمبدأ واحد

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة في عمان المحروسة

3-6-2016

2 thoughts on “البيع الآجل (الترميش) نموذجا للإخلال بين الكلي والجزئي في الشريعة حيل البَعاجِلة والنعجة المستعارة

  1. يونيو 3, 2016 - احمد صيصل

    رسالة مفيدة جداً
    ربنا يقويك يا دكتور

    جزاك الله كل خير – بخدمتك في الدين والمنفعة للمسلمين

  2. يونيو 3, 2016 - محمد الغرايبة

    احسن الله اليك وزادك علما وتقوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top