هل  يجب شرعا أخْذ مطعوم الحُمَة ( كورونا) ليس الخلل في الكلي كالخلل في الجزئي

تمهيد: الأخ المحِب ضرورة حياتية:

ذكرني أخ محب وهو أخي الأكبر صلاح بضرورة أخذ طعم الحمة التاجي، فقلت له قد أصبت سابقا ولديَّ مناعة، ققال: الدراسات تقول بإمكان تكرار الإصابة، قلت له حاكيا: (وإن عدتم عدنا) قال لي خذ بالأسباب، قلت، نعم صدقت، فدخل على الموقع، وقال لي: هويتك! فملأ المطلوب وقال لي تصلك رسالة بالموعد، قلت: الحمد لله تعالى على كرمه أنك تجد في هذه الدنيا أخًا غيرَ ما يرضيك لا يحاول.

أولا: الكليات الشرعية الناظمة لوجوب أخذ المطعوم:

ما لبثَت الرسالة أن وصلت، وضُرب  موعد بيننا  لا نُخلِفه مكانا سُوى قريبا من بيتي، وتابعت أخبار الَّلقاحات، وما نالها من تشويه، فقررت إجراء قراءة أصولية للموضوع لا تخاذ قرار بشأن الأمر، وقد نهجت الكليات الآتية:

1-النادر لا حكم له:

فالقول بأن هناك حالات تضررت فلها حكم النادر، وهذا كما قال الشاطبي بأن المصلحة في العادة لا تنفصل عن المفسدة، فما من مفسدة إلا وتشوبها مصلحة،  والعكس صحيح، فالمصالح والمفاسد ممتزجة في العادة، والشرع علق الحكم بالغالب نهيا وإذنا.

2-تغليب المصلحة على المفسدة المظنونة:

قال في المراقي:

ورُجِّح الإصلاح كالأُسارَى *** تُفدى بما ينفع للنصارى.

ومعنى البيت، إذا تعارضت المصلحة مع سد الذريعة، قُدمت المصلحة عليها، كدفع الفدية للعدو من أجل استنقاذ أُسارى المسلمين، فبالرغم من أن هذه الأموال سيستخدمها العدو ليتقوى بها على المسلمين، فإننا نُغلب المصلحة المتحققة على المفسدة المتوقعة، وهنا يجب التفريق بين المفسدة المحتملة والمفسدة المتحققة، فدرء المتحققة أولى، من جلب المصلحة، وكل من قال هذا حرام سدا للذريعة من الواجب أن يسأل هل فاتت بعض المصالح بسد الذريعة، فإن لم يبحث فوات المصالح، فسد الذريعة عنده ثقافة وليس أصلا فقهيا، لأنه لم يستكمل البحث في المصالح التي قد تفوت بسده للذريعة، وهنا يظهر  تميز الفقه عن علم الاجتماع الديني.

3-ما كان واجبا بالأفراد فهو في الجماعة أَوْجَب:

يعتبر فقه المجتمع والعمران من أهم المسائل الفقهية في الوقت الذي تحول التدين إلى التدين الشخصي والأشواق الروحية القائمة على الجهل بفقه المجتمع مع إشباع الحاجات النفسية والروحية بالأذكار الصباحية والمسائية، مع التفريط في فقه المجتمع الذي يحفظ الحياة على مستوى الجماعة،

ما كان بالجزئي ندبه عُلم … فهو بالكلي كعيد منحتِم

 أي ما كان مندوبا بالأفراد فإنه بالنظر للمجموع يصبح واجبا كصلاة العيد، فهي سنة للأفراد واجبة على المجموع، فإذا توقفت الحياة للمجتمع على أخذ اللقاح للفرد، فإن ما وجب على الفرد يصبح أشد في الوجوب بالنظر إلى المجموع، وتغلظ أحكام الأفراد باعتبار المجموع.

4-الشرع يتعلق بالأمر بمصحلة محضة:

أ-المصالح والمفاسد ممتزجات في العادة:

سبق وقلت إن المنفعة والمفسدة ممتزجتان في العادة كالخمر فيها مفسدة غالبة مشوبة بمصلحة مغلوبة، والقصاص مصلحة غالبة مشوبة بإزهاق النفس وهو مفسدة مغلوبة، ولكن ذلك حاصل باعتبار العادة، أما باعتبار الأمر الشرعي فإنه يتعلق بالمصلحة المحضة لا تشوبها مفسدة، فالأمر الموجب بأخذ اللقاح لا يتعلق بمفسدة قطعا، ولكان الله -سبحانه- بذلك آمرا بالفساد.

ب-الشرع لا يأمر بمفسدة ولا ينهى عن مصلحة:

 ولكن الآلام والمفاسد الحاصلة بعد اللَّقاح في الحالات النادرة، والمفاسد القليلة الحاصلة للمجموع كالرشح وغيرها في الكثير الغالب فهي جميعا حاصلة باعتبار العادة التي تمتزج فيها المصلحة بالمفسدة، أما باعتبار الشرع فإن النهي الشرعي متعلق بمفسدة خالصة، والإذن الشرعي متعلق بمصلحة خالصة، وتنسب إلى الله تعالى من حيث إنه خالق كل الشيء، أما من حيث الأمر  والنهي، فلا يأمر الله تعالى -سبحانه- بمفسدة، ولا ينهى -سبحانه- عن مصلحة، وهنا تتجلى دقة تركُّب الحكم الشرعي مع الحكم العادي بين أصول الدين وأصول الفقه والفقه، في جسر واحد بينها جميعا.

5-التواتر المعنوي الممتزج بالحسي:

هناك دليل مُركَّب بين الحسي الثابت بالاستقراء الظني، ويتركب معه معنى يبلغ حد التواتر المعنوي، وقد بينه الشاطبي في كيفية إثبات القطع بالمقاصد فاستفدت من الشاطبي ناحية تدريبية على تطبيقات المقاصد، لأنه ركَّب التواتر مع الاستقراء الحسي الجزئي، فإنه لا يفيد القطع كما قال في المراقي:

1-فإن يَعُمَّ غيرَ ذي الشِّقاق*** فهُو حُجة بالاتفاقِ

2-وهُو في البعض إلى الظن انتَسب *** يُسْمى لُحوقَ الفرد بالذي غَلبْ

 وذو الشقاق هو الاستقراء الجزئي الظني، فإن عَمَّ الاستقراء، أي صار استقراء تاما، فإنه يكون قطعيا في أفراده، وقد ركَّب الشاطبي دليلا على المقاصد من الاستقراء الجزئي مع التواتر المعنوي فكان دليلا قطعيا، بالرغم من كون الاستقراء المركب مع التواتر المعنوي جزئيا، وفي جميع الظروف فإن الحالات النادرة التي لم يشملها الاستقراء تنزِل بالدليل من القطع إلى الظن الراجح وهو مجمَع على العمل به، وهو ما عَناه في المراقي في البيت الثاني، وبناء عليه أصبح تلقي اللقاح واجبا شرعيا، وهذا تأصيل معرفي إسلام في نظرية المعرفة سواء كان في الفقه والطب والفلك وغير ذلك من فروع العلوم.

6-لا ضرر ولا ضرار:

نفت الشريعة ابتداء الضرر  وهذا معنى لا ضرر، وأما معنى لا ضرار :أي لا ترد على من ضرك بضرر مثله، وهذا أصل أقوى من الأصول السابقة الثابتة باستقراء الجزئيات، ذلك أن الكلي نبدأ منه للحكم على الجزئيات، أقوى من الكلي الثابت باستقراء الجزئيات، ذلك أن لا ضرر ولا ضرار  أصل بنفسه، بينما الاستقراء انطلاق من الجزئي لإثبات الكلي، والأول أقوى لأنه هو المثبت للجزئيات، أما الثاني فهو كلي أثبته استقرار الجزئيات، وفي جميع الأحول نجد أننا إذا انطلقنا من الكلي إلى الجزئي في قوله صلى الله عليه وسلم  : لا ضرر  ولا ضرار، أو انطلقنا من الجزئي للكلي في الاستقراء كما في تركب الحسي مع التواتر المعنوي في تقارير الأطباء ولجان الصحة العالمية، فإنها تشهد بالاستقراء للحسيات المركبة مع التواتر المعنوي، أما كلي لا ضرر ولا ضرار فهو الأصل ألأقوى الموجب  لأخذ المطعوم، لأنه أصل ثابت بنفسه، وليس بالاستقراء .

الخلاصة:

1-الكليات ناظمة لجزئيات الشريعة ودون الكليات تصبح فروع الشريعة شظايا متناثرة.

2-ينخرم الجزئي ولا ينخرم الكلي، لأن الكلي تكاثرت عليه الأدلة.

3-الترجيح باعتبار الكلي عند التعارض مع الجزئي ترجيح باعتبار كثرة أدلة الكلي، وهذا ترجيح باعتبار كثرة الأدلة على فرض حصول المعارضة.

4-لو  صح انخرام الكلي لهدمت الجزئيات التي بنيت عليه، مما يعني أن انحلال الكليات الشرعية انحلالا شاملة للشريعة.

5-يصعب بناء المجتمع على العلم بالجزئيات لكثرتها وعدم انحصارها، ولكن الكليات ضابطة للجزئيات وحاصرة لها، وصالحة أطرا عامة لبناء مجتمع العمران.

6-كليات الشريعة هي قواعد فقه العمران المقابل لكليات المجتمع اللاديني، وعلينا لا نغرق ونستنزف في مناقشة الجزئيات، في فكر لا يعترف بكلياتنا أصلا.

7-تقابَل كليات الشريعة بكليات الفلسفة اللادينية، وليس الجزئي بالجزئي.

9-مناقشة جزئيات الشريعة وفروعها في مجال كليات الفكر اللاديني هدم لفروع الشريعة، وعزل لها عن كلياتها.

10-يجب ترتيب الفروع الشرعية وفق كلياتها الشرعية لا وفق كليات الفلسفات المادية.

11-تمثل الكليات علامات فارقة للشريعة عن غيرها من التشريعات الدنيوية.

12-الكلي أمر  ذهني اعتباري،  ليس موجودا في الخارج بشخصه، إنما تطبيقات المسلمين للفروع هي التي تحقق المعاني الكلية للشريعة.

13-عدم التزام المسلمين بالجزئيات يعني عدم تحقق الكليات الشرعية.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

   12-شعبان  -1442

   26-3 -2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top