ميثاق جدتي لحقوق الطفل

تمهيد: اكتشاف الطفولة متأخرا:

تمر الأيام تباعا وكلما انتهت مراحلة من حياتنا اكتشفناها بعد أن تنتهي فنضطر أن نعيشها عن بعد بعد أن كنا فيها، ومن هذه المراحل مرحلة الطفولة تتجلى لي وأنا في خريف عمري وقد اقترب عمري من العشر الأواخر بين الستين والسبعين، أعود إلى طفولتي وأن أعيشها خيالا كما هي لأسرد لكم من العهد القديم قصة تعيننا على فهم العهد الجديد، وأروي قصة كانت مغلقة علي وقتَ عيشِها حفيدا، وملكت مفاتحها وقت اكتشافها جَدًّا.

1-طفولة مليئة بالعمل والتجربة:

كانت طفولة مليئة بالتجربة، حيث كنت أعمل مع والدي في حِرفة النجارة، وذات يوم ارتكبت خطأ بتقطيع الخشب على نحوٍ أتلَفَه، وكانت الكمية ليست بالهيِّنة، مما يعنى أن هناك خسارة مالية فادحة، وأنها تتجاوز أن تكون جُنحة، وتصل إلى الجنايات الكبرى، ولكن الأمر ما زال سرا ولا يعلم بذلك أحد من رفقاء العمل في المنجرة، مما يعني أن باب النجاة ما زال مفتوحا.

2-قرار اللجوء إلى الجدة جاء سريعا:

وعند ذاك، قررتُ اللجوء إلى بيت جدتي في جبل الأشرفية الذي يستغرق ربع ساعة على الأقدام بمَشْيةٍ سريعة لطفل يراهق من مرحلة الابتدائية إلى الإعدادية، وقد كان الخيار هو اللجوء للجدة، قبل عِلْم السلطات، وذلك عن طريق ما بين المقبرة والمدارس، حيث الطريق متعرج وبين البيوت، فلا أكون مكشوفا للقُصَّاص من خلفي، أما الطريق الثاني فهو بين المقبرة والمستشفى وهو طريق خالٍ من البناء ومكشوف برا وجوا، وسأكون عندئذ هدفا سهلا لمن هم على أَثَري.

3-شعار الجدة الطفل دائما على حق:

-اخترت الطريق بين المقبرة والمدارس، وما هي إلا نحو ثلث ساعة قبيل الظهر كنتُ على باب بيت جدتي، والوقت ليس وقتَ زيارة في البيئات الكادحة، وعليه فإن هذا اللاجيء وراءه تهمة، ولكنَّ شعار جدتي: الطفل على حق دائما، وانصُر حفيدك ظالما أو مظلوما، ولم يبق إلا أن تكب على بابها ما قاله قُرَيط بن أُنَيَف العَنبريّ التَّميمي:

 لا يسألون أخاهم حين يَنْـدُبُهم … في النائباتِ على ما قال بُرهانا

-على كل حال، فهذه تقاليد سياسية معروفة، جعلَت بيت جدتي وجهة اللاجئين من الأحفاد والأولاد، وليس من عادتها أن تسألك ما الذي حدث، فهذا أمر لا يترتب عليه فائدة، ما دامت ستنصرك ظالما أو مظلوما.

4-سفير النوايا الحسنة يقرع الباب:

وما هي إلا لحظات وإذا بأحد إخواني يقرع الباب، وهو أمر متوقع، مما أيَّد أنني جئت دَخِيلا لاجئا، وهذا هو السفير الذي جاء يستطلع الأمر، وبحسب العرف كانت أهداف هذه السِّفارة هي التأكد من محل الإقامة للأشخاص المطلوبين، وثانيا محاورتهم وتهديدهم بضرورة العودة بهدوء دون إثارة الرأي العام، وإطلاع الجمهور على حقيقة الأمر مع شيء من جحوظ العينين والتهديد بصوت خافت لا تسمعه الجدة، فلا تكاد تسمع إلا همسا.

5-خدمة اللاجئين فوق العادة:

عما قليل وإذا بصحن الفول المدمس الغارق بالزيت البلدي وعلى أثره الخبز الساخن ينزل مع قليل من الدخان المتصاعد، وغرقت أيدينا بالزيت المغمَّس بالفول أو العكس، ولكن السفير كان مشغولا بالفول، أكثر من أعمال السفارة كما هي عادة السفراء، فلم يكن جادا في أعمال سفارته التي لا تزيد فائدتها على الاطمئنان أن الولد اللاجيء عند جدته، ومعروف محل الإقامة حاليا.

6-العرف الدبلوماسي وتبادل الأدوار:

 إن سفير النوايا الحسنة يعرف أن الفول أهم من السِّفارة، فقد سبق أن مَـرَّ بدور اللاجيء، وأنا بدور سفير النوايا الحسنة، وقد جرى العرف الدبلوماسي بتبادل السفارة بيننا فتارة أنا سفير وهو مطلوب، وأحيانا العكس، ولكن السفير جلس ليشاركني متعة مشاهدة التلفاز، فقلت له: ارجع على عجل وطمئن الوالد والوالدة، وأنا الآن دوري استقبال رسالة المذيع الذي يقول لي: عزيزي المشاهد، ولكنه لا يعرفني ولا يعرفك، فيا سعادة السفير انتهت المهمة! ولا تشاركني في حقوقي لاجئا، كما قلتَ لي أيام كنت أنا سفيرا،  وكنت أنت لاجئا.

7-رجوع السفير يحرك القيادات العليا ويربك البرامج:

رجع السفير على عجل وأخبر الأهل بأن المطلوب في أمان، ولكن لا يريد العودة، ويبدو أنه يطالب بحصانة الجدة، وفي هذه الحالة لا بد من تغيير على جدول الأهل، وهو أن الزيارات المؤجلة تصبح حالَّة، وعلينا أن نتوقع تعجيل زيارة الجدة نهاية الأسبوع لتصبح فورية عاجلة، وهذا ليس علما بالغيب فالأعراف السابقة تشهد بذلك.

8-القيادة العليا في منزل الجدة:

ما هي إلا أن غابت الشمس وإذا بك تسمع صوت الوالد، يطرق النافذة بصوت جهوري قائلا: أين العرب؟! وتَتْبعُه والدتي حاملةً شيئا من صُنْع يديها لجدتي، شُغلُ الروح للروح، ويدخل والدي مُسَلِّما بكل كلمات الاحترام والتبجيل لجدتي، مطمئنا على الصحة والحال، أما جدتي فهي تعرف الأهداف النهائية لهذه الزيارة، وهي تسليم المطلوبين، ولعلها قد لـمَحَت من طَرْف خفِيٍّ إشارات الأصابع والعيون التي كانت تهددني بعيدا عن المجال الجوي لعيون جدتي، وهذا التهديد عندي  بحضرة جدتي لا يختلف عن تهديد طالب الابتدائي في المدرسة عندما كان يهددنا بأخيه الكبير غير الموجود أصلا.

9-جدتي ترفع سقف مطالبها لتحسين وضعها التفاوضي:

-هنا ترفع جدتي صوتها منكرة على والدَيّ:  لماذا لا يأتي الأحفاد ليناموا عندي  كل أيام الأسبوع، لماذا تشقُّون عليهم في العمل، ما هذا الظلم؟! ثم تعتذر الوالدة بأمر الأعمال والواجبات ومستقبل الأولاد، ثم تبدأ جدتي بشتم الأعمال،  وتؤكد أن الفرصة الآن مواتية  لينام وليد عندها، ولْيَذْهب العمل إلى الجحيم.

 -وأنا أعلم أن جدتي تريد أن ترفع سقف مطالبها، لتحسين موقفها التفاوضي في تسليم المطلوبين، هنا يبدأ العَوْم الدبلوماسي من الوالدين لتهدئة الجدة بتغيير الموضوع،  والحديث عن السوق وشراء الخضار للتجفيف، عَلَّ في ذلك فرصةً لتنقية الأجواء الـمُحْـتَـقِنة مع الجدة ذات الخبرة المحنَّكة في الأزمات الدبلوماسية في مجال الأسرة السعيدة، كل ذلك بينما أنا أضع رجلا على رجلا بشكل مستفِزّ، مستندا إلى خزانة الملابس، وورائي وسادة وثيرة، وكأنه لا علاقة لي بالأمر .

10-مرحلة الهجوم المعاكس:

-بعد استيعاب الوالدة الهجوم الأول من جدتي وشَغَلَت جدتي بالحديث عن واقع اقتصاد السوق، رأت أن الفرصة مواتية لشن هجوم معاكس والتصريح بالأهداف الحقيقية للزيارة، طالبت والدتي بعودتي إلى أرض الوطن، وطمأنت جدتي بأن   الخشب والمال مُعَوّض، والمهم سلامة الأولاد، كل هذا وجدتي لا تعرف حقيقة المشكلة أصلا، لأنه لا فائدة من ذلك، لأنها على مذهب شاعرنا، قُرَيط بن أُنَيَف العَنبريّ التَّميمي، القائل:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم … في النائبات على ما قال برهانا.

-وأردفَت الوالدة  بتصريح عالٍ رفيعِ المستوى، بقولها: إن  وليد شَغِّيل معلم، وعليه الأمان ونحن نعمل لمصلحته ومستقبله ومستقبل إخوانه، ومع ذلك  كنت  أشعر بالقلق على مصير التسليم، فحتى الآن لا يوجد عهد وميثاق غليط، والمسألة مجرد مفاوضات سِلْمية دون وجود حل نهائي، ولم تقل جدتي حتى الآن: لن أرسله معكم حتى تؤتونني مَوْثِقا من الله.

11-التعجيل بمفاوضات الوضع النهائي:

المهم عجَّلَتْ جدتي بمفاوضات الحل النهائي، وهددت وتوعدت كل من يتعرض لي بسوء، وأكدت لها الوالدة ذلك بيمين بالله العظيم أن الأمر لن يكون فيه أي إساءة لي، والمسألة هي سوء تقدير من أحد المطلوبين، كان ينبغي أن يتريث ولا يغادر دون أن يُعْلِم أمَّه، على كل حال وصلْنا إلى الحل النهائي، وتم أخذ العهود والمواثيق المغلَّظة.

12-عملية التسليم تمت بنجاح:

قبَّلتُ يد جدتي شاكرا لها خدمة الخمس نجوم من طعام وشراب ومشاهدة التلفاز الملون، ولا أنسى أيضا الدعم الوطني للطفولة، وهو ما يُدَسُّ في جيك من نقود أثناء الخروج، وكأنها تقول لك: وإن عُدْتم عُدْنا، وإن عادوا فَعُد،  وغالبا ما تكون العطِيَّة  سرا بعيدة عن عيون الوالدين حتى لا تخضع لضريبة السلع الأساسية، حيث يجب عليك أن تنزل لشراء الخبز والفلافل أثناء العودة، ابتهاجا بنجاح عملية السلام، المهم خرجت من بيت جدتي إلى حيث صندوق البِك أب، الذي كان مركبا لكبار الشخصيات في ذلك الوقت، ومن معالم الوجاهة في المنطقة وبين الأهل والأقارب، وهو أيضا من علامات النعمة والثراء.

13-أجراس العودة بدأت تقرَع:  

-العودة معروفة من الطريق بين المستشفى والمقبرة هذه المرة، في طريق ترابي مليء بالحفر، وكانت اهتزازة البك أب تحرك زرَد الحديد الذي يقرع جسم البك أب، وأنا مُطِل برأسي من فوق الصندوق وأتيه فخرا، وأقول ها هي أجراس عودتنا بدأت تُقْرَع، وكانت تقنية أجراس العودة متفوقة تقنيا، لأنها تمنع نوم السائق، أما التقنية المعاصرة فهي لا تمنع النوم، ولكنها تحذر منه.

 -حتى وصلت المنزل فلقيت أمامي في البيت إخوتي جميعا الذين كانوا مدرسة مشاغبين مستقلة، ودخلت أتيه فخرا وكأنني فاتح القدس بسبب نجاح محاولة اللجوء والنجاة من العقاب، لعِبْنا بقية الليل، فقد كان يوما صعبا شعَرْنا وكأنه عام.

14-زيارة الجدة المفاجئة والغموض في الأهداف:

-في صباح اليوم الثاني،  البدء بصلاة الصبح، ثم تناول الفطور وهيا إلى العمل أثناء الإجازة المدرسية، مع العلم بأن التملص من العمل  بالواجبات المدرسية خدعة لا تصلح إلا في أثناء دوام المدارس، المهم تبدأ العمل بنشاط وسعادة غامرة.

 -ومع إشراقة الشمس وإذا بجدتي تدق الباب، ويعلم المشاغبون من صوتها  أن الجدة وصلَت، حتى كادوا يكونون عليها لِبَدًا، وكانت  فرحة زيارة الجدة بالنسبة لنا لا تعدِلها فرحة، وقد كان الهدف المعلن من الزيارة أن جدتي جاءت لتعاون في تجفيف الخضار في ذلك الموسم، بينما كانت الأهداف الحقيقية هي التأكد من أن عملية تسليم المطلوبين تتم بالشكل المتفق عليه.

15-قصص الشاطر حسن تتفوق على الهواتف الذكية:

تنظر جدتي إلي وإلى مدرسة المشاغبين ونحن نتقافز من فوق أعمال التجفيف باتجاه المطبخ حيث نصنع لأنفسنا ما لَذَّ وطاب من الطعام، ثم العودة إلى العمل بهمة ونشاط، فاليوم جدتي ستبيت مع مدرسة المشاغبين وستحدثهم قصة الشاطر حسن.

16-خذوا قوانين حماية الأسرة والطفل وأعيدوا لنا جداتنا:

-حل المساء وطَعِمْنا العَشاء، والآن جاء دور قصة الشاطر حسن لا نمَل سماعها على كثرة تكرارها، المهم تبدأ الجدة بسرد قصصها علينا، وما أن تنتهي حتى أخَذ منا النعاس كل مأْخَذ، وإذا بنا مَن يتكيء بمرفقة في ظهر أخيه، ومَن خدِرَت ساقه لأن ساقا أخرى فوقها لا ندري لمن تلك الساق لكثرة تداخل الأطراف من مستمعي قصص الجدة، كما  يعتبر لون البنطلون هو الطريقة الوحيدة في تتبع كل أحد منا لساقه ليرفعها بيده من أجل القيام.

-ونقوم بثقل وخدر بسبب تشابك الأطراف، ونشعر أننا أطفال فضاء، نطير في الهواء ولا تلامس أقدامنا الأرض دون وكالة ناسا ولا مدينة ألعاب، ونحن سعداء بهذا التوازن الطبيعي في حياة جدتي، التي هي حماية طبيعة جعلها الله تعالى في بيوتنا، ونقول للدنيا أعيدوا لنا جداتنا وخذوا ميثاقكم لحقوق الطفل.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

  17 -جمادى الأولى  -1442

   1- 1 -2021

6 thoughts on “ميثاق جدتي لحقوق الطفل

  1. يناير 1, 2021 - مجدلاوي

    رائع جدا
    الشاطر حسن ذكرنا برحمة الخال حسن والقدر المشترك

  2. يناير 1, 2021 - غير معروف

    إبداع في الطرح سلمت الأيادي دكتور

  3. يناير 1, 2021 - أنوار صبابحه

    تستحق الحماية دكتور

  4. يناير 1, 2021 - غير معروف

    بارك الله فيك يا دكتور
    أدخلت لقلوبنا السعادة
    باسلوب قصصي شيق أعاد لنا عبق الماضي
    وذكريات الطفولة

  5. يناير 2, 2021 - Alaa Kiswani

    أكثر من رائعة

  6. يناير 2, 2021 - غير معروف

    جميل جداً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top