منهج فقهاء السنة في صناعة الاستقرار وقتَ الفِتنة: الحاكم المتغلِّب بين التحليل الفقهي الأصولي والنشر الإعلامي

(من فقه الدولة والمجتمع) منهج فقهاء السنة في صناعة الاستقرار وقتَ الفِتنة

الحاكم المتغلِّب بين التحليل الفقهي الأصولي والنشر الإعلامي

أولا: عرض المشكلة:

نعيش في واقعنا اليوم اضطرابا في الفكر والتصور، نتيجة لصراع بين مرجعية إسلامية أصيلة تمثل هوية الأمة، ومرجيعات غازية تحاول أن تجد لها موطيء قدم على حساب هوية الأمة وثقافتها، خصوصا في ظل محاولات مستمرة لإضعاف المرجعية الإسلامية في العقيدة والشريعة، وقد استغل الفكر اللاديني بعض القضايا لمحاربة المرجعية الإسلامية، منها قضية تصحيح الفقهاء ولاية الحاكم المتغلب وإيجاب طاعته، وتم ترويج فكرة مفادها أن الفقهاء كانوا أبواقا للسلاطين، وكانوا من أوتاد الظلم والاستبداد، وقد ساعد على ترويج هذه الإشاعة ضحالة الثقافة الإسلامية في فقه الدولة والمجتمع، ومن غرائب الزمان أن يدَّعي المروجون للإشاعة، أنهم فدائيو الحرية والكلمة القادمة من الغرب الحر، مما حفَّز العديد من الشباب المسلم على تصديق هذه المقولة، فما كان منهم إلا أن خرجوا على المجتمع بقوة السلاح، وحاربوا الدولة والمجتمع في وقت واحد، ولكن الذين حرضوهم من فدائيي الحرية المزعومين تبرأوا منهم، وقالوا في هؤلاء الشباب أنهم متخلفون لا يعرفون أساليب التغيير الديموقراطية، وتم إلصاق ذلك بالإسلام!! وادعوا أن الإسلام لا يصلح لبناء المجتمع، لأنه كان سببا في نشوب الصراعات.

ثانيا: سبب المشكلة:

يكمن سبب المشكلة في أن الذين روَّجوا لفكرة أن الفقهاء كانوا من دعائم الاستبداد، أنهم ليسوا فقهاء متمرسين حتى يفهموا أقوال الفقهاء والمدارك الأصولية التي بـنَـوا عليها فقْهَهَم، بالإضافة إلى التفاصيل الفقهية لتلك المسألة، ويتضح الأمر أكثر إذا علمنا أن المروجين هم من الذين تلوّثوا بالثقافة اللادينية الأوروبية، ولهم موقف مسبق من الإسلام وأهله، وتمثل الفوضى مستنقعهم المناسب، حيث يُستدرَج الشباب المسلم في غيبة المرجعية الفقهية في شأن المجتمع إلى أتون الحرب مع الدولة بدعوى الحرية، لنفي شبهة أن الإسلام يدعم الاستبداد، حتى إذا وقعت الفتنة المسلحة اتخذها شبِّيحة الحرية المزعومة ثغرة لبث أفكار إلحادية، تعادي الإسلام وجها لوجه، لأن الفتنة المسلحة هي بيئة فاسدة صالحة لكل ما ليس سُنة، في ظل وقوع المسلمين في دماء بعضهم بعضا، حيث تغيب العقول، وتطغى غريزة حب البقاء على بناء المجتمع والأمة، وعلى حماية الإسلام وحراسته، وفي هذا الظرف الصعب يمكن حقن المجتمع الإسلامي بحقنة من الإلحاد، دون أن يشعر بوخزة الحقنة، لأن المجتمع واقع في دمه ويبحث عن الأمن بأدنى ثمن، وتظهر في وقت الفتنة الدعوة إلى حذف الآيات والأحاديث، واتهام مناهج التربية الإسلامية والآيات القرآنية بأنها هي السبب، ولكن في الحقيقة ينطبق على اللادينيين المثل القائل: رَمَـتْـني بِدائها وانْسلَّت، وهو مَثَل عربي، يقال فيمن يتهم غيره بعيوب نفسه.

ثالثا: توضيح أصول الفقهاء في صحة ولاية الحاكم المتغلب بالقوة:

1-ارتكاب المفسدة الأدنى لدفع الأعلى:

لم يصحح الفقهاء ولاية المتغلب باعتبارها حُكما أصليا، بل باعتبارها حكما استثنائيا لظروف طارئة، فكما أنه لا يجوز أن يقال: إن الإسلام أحل الخمر مطلقا إذا جاز لظرف الجوع ودفع الغُصَّة في الطعام، كذلك لا يجوز أن يقال إن الفقهاء قد صححوا ولاية المتغلب على أنه حكم أصلي، بل هو حكم اضطراري كالميتة للمضطر، فهؤلاء المروجون لمخدِّرات الفكر لم يفقهوا طبيعة المسألة الأصولية المبنية على ارتكاب أخفِّ الضررين، حيث لا مَفَرَّ من ارتكاب أحدهما، ومِن ثَمّ فإن إطلاق القول بأن الفقهاء قد أباحوا الاستبداد، هو كلام صحفي يعبر عن رأي كاتبه، لا سيما أنه كان ينبغي على ذلك الكاتب أن يبين أدلة مخالفِه في الرأي إن كان أمينا من الناحية العلمية، لا أَن يلصق التهم جزافا بالفقهاء، لأجل أن يروِّج بضاعته الكاسدة في ديار المسلمين.

2- تصحيح ولاية المتغلب وسيلة لحقن دماء الناس(فتح الذرائع للواجب):

إن الذين وجهوا تلك الاتهامات وخلال ترويجهم ذاك لم يُبَيِّـنوا أدلة مَن خالفهم، واكتفَوا باتباع الأسلوب الاتهامي، ولم يعرفوا أن السبب في تصحيح ولاية المتغلب هو حقن دماء العامة من الناس، لأن السلاطين حولهم من الأسوار والجنود ما يبعدهم عن محرقة الصراع، وأن الذين يدفعون ثمن الانشقاق عن الدولة والمجتمع هم عامة الناس الذين ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، وهم يدفعون ثمن أخطاء الطرفين، وأخطاء لم يرتكبوها، لقد كان هاجس العلماء هو استقرار المجتمع لمصلحة الجميع حكاما ومحكومين، وكان منهجهم دائما تسكين الثارات والفتن.

3- منع التدخل الخارجي (سد الذرائع للحرام):

بالرغم من حصول خلافٍ في الصّدر الأول من خيرة هذه الأمة في جواز الخروج على الحاكم الظالم، إلا أنه حصل توافق فيما بعد على عدم الخروج بعد استشهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه، واكتشف المسلمون أن هناك يدا خبيثة عملت على استدراج الحسين للكوفة حيث استشهد من قبل أبوه -رضي الله عنهما، وخرج الذين استدرَجوه ثم خذلوه يلطبون دمه من أوليائه ومحبيه إلى يوم الدين، يطلبون دمه من المسلمين الذين لا ينتهي واحد منهم من صلاته إلا بقوله: الله صل على محمد وآل محمد، خرجت تلك الطوائف الشاذة عن صراط الأمة بدعوى الانتقام لدم الحسين وآل البيت إلى يوم الدين، لقد انتبه الفقهاء إلى أن القضية ليست قضية ظلم وحاكم، بقدر ماهي طوائف تتطلع إلى حدوث أي فتنة تسفك فيها الدماء، ويستثمر بعد ذلك سفك الدماء للطعن في الإسلام وتحريفه.

لذلك على المسلمين اليوم أن ينتبهوا إلى أن هناك استهدافا لهم ولوجودهم ومقدساتهم، وأن عواطفهم النبيلة لن تنفعهم إذا تمكنَّت الفتنة من ديارهم، وعليهم أن يتذكروا دعوى ابن سبأ اليهودي الذي رفع راية العدل باديء الأمر، ثم سرعان ما تحولت إلى ادعاء ألوهية الإمام عليّ -رضي الله عنه- في وقت الفتنة، كما تتحول دعوى رفع الظلم اليوم إلى عداوة الإسلام ظاهرا وباطنا وقت الفتنة، والأمر ليس سٍرا، بل نشاهد اليوم فضائيات طافحة بهذه العدواة للإسلام والمسلمين، وتجرأت في وقت الفتنة والدماء على ما لم تتجرأ عليه قبل الفتنة.

رابعا: تصحيح ولاية المتغلب لا تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

بالرغم من إسناد الأمر إلى غير أهله كالحجَّاج المتفق على ظلمه إلا أن الصحابة صلَّوا خلْفة، ولم يجيزوا الخروج على الخلفاء بسببه، ولكن ذلك لا يعني التسليم للاستبداد، بل تمت محاربة الاستبداد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء الأئمة من بعدهم على هذا الحال، فالأئمة الأربعة صححوا ولاية الذين غلَبوا على السلطة، وقاموا أيضا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الظلم في الوقت نفسه، فقد أوذي الأئمة الأربعة إيذاء شديدا من السلطان، وكل منهم له خبر وشأن في ذلك لا يخفى، ولكنهم تناسوا ذواتهم وأشخاصهم لمصلحة المجتمع، وأعلنوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون شق صفوف المسلمين، إيمانا بأن التصحيح هو من داخل المجتمع، وفق قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس بالانشقاق عليه، لما رأوه من وقائع دامية حدثت لعبد الله بن الزبير، وسعيد بن جبير، أكدت مذهب الفقهاء القائم على النص والمصلحة في وجوب الإصلاح من داخل المجتمع لا بالانشقاق عليه.

خامسا: ما أشْبَـهَ الليلةَ بالبارحة:

لسنا نحن المسلمين اليوم بأبعد كثيرا من أجدادنا الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان في القرن الأول، فما زال باقيًا فكر ابن سبأ اليهودي الذي رفع لواء العدل، وتبِعه مَن تـبِـعه من أغمار المسلمين وأغرارهم، وسبقه أبو لؤلؤة المجوسي الذي سَوَّغ وجوده في المدينة لعمر -رضي الله عنه- أنه جاء يشكو ظلم سيده، ودعوى استدراج الحسين -رضي الله عنه- تحت ستار رفع الظلم، ثم خِذلانه -رضي الله عنه، ثم استثمار دم الحسين -رضي الله عنه- في قتل أولياء دم الحسين وأحبائه، مِن قوم صناعتهم البُهتان، يدّعون أنهم من بني هاشم، ثم يلعنون قريشا ويـُمجِّدون فارس، حتى قال فيهم المتنبي:

وفارقت شَرّ الأرض أهلا وتُربةً … بها عَلويٌّ جدُّه غيرُ هاشمِ

لا يستطيع أحد منا اليوم أن ينكر شَبه الحال اليوم بتدخل القوى الخارجية والطوائف الباطنية في إثارة الفتنة التي وقودها أبناء المسلمين، ولكن المختلِف اليوم هو غياب فقهِ الصحابة والتابعين ومنهجَهم في تسكين الثارات والفتن، مع إنكار المنكر والأمر بالمعروف في الوقت نفسه، والإصلاح من داخل المجتمع لا بالخروج عليه بقوة السلاح، بل وأصبح منهجُهم أمرا غريبا غرابة مرجعية الإسلام نفسه في شؤون المجتمع، وخرجت منابر إعلامية لا تعرف ابن عمر ولا أنس بن مالك، ولا أبا حنيفة النعمان، ولا مالك وأحمد ولا الشافعي -رضي الله عن الجميع، بضاعتها أفكار مشوهة، صنعت أجيالا أضاعت الصلاة واتبعت الشهوات، ولم تعد للسُّنة عليهم سلطان، فأصبح بعض هذه الأجيال إما متحللون من الدين يرطُنون بلغة غريبة على الأمة، وإما الصورة المقابلة لهم التي تساهلت في تكفير المسلمين، واستحلت الدماء، فكانوا هم جميعا شرارة الصراع الذي يدفع الجميع ثمنه، لأن الجميع لم يهبُّـوا لنجْدة السنة، وحمايتها من عدوان الـجُفاة والغُلاة، أعني جفاة الإلحاد، وغلاة التكفير.

سادسا: خلاصة الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه:

إن القول بأن فقهاء المسلمين كانوا عونا للاستبداد هي أفكار فاسدة، لفلسفة لادينية كاسدة، بل إن علماء المسلمين مارسوا جهادا معرفيا في وأْد الفتن وإخماد ثارات الحقد، التي تسعى للنيل من دين المسلمين ودمائهم، وقد استطاع الفقهاء صناعة نقطة التوازن بين الحاكم والمحكوم، متمثلة في الحفاظ على تماسك المجتمع وعدم الانشقاق عليه، والحفاظ على الشريعة وحقوق المحكومين بالوقوف في وجه الحاكم بمفردهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، دون تجييش المجتمع وتهييجه، الذي يمثل فرصة للمتربصين، وتحمَّلوا الأذى من الحكام الظالمين في سبيل حماية أمتهم ومجتمعهم، ولم يرضَوا أن يكونوا معارضة مجانية، وتكون التكاليف من دماء الآخرين، ولم يتخذوا دور جمهور كرة القدم في التشجيع والمعارضة، ولم يكونوا يوما موالاة للحاكم ولا معارضة له، بل كانوا قائمين بحق الشريعة، تلك الوديعة التي ائتمنهم عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يقولون الحق على الحاكم والمحكوم نصيحة لله ورسوله، لا طمعا في دنيا ولا زهدا في آخرة، دون الانشقاق على المجتمع، يعلمون العلم النافع لا يسألون الناس أجرا، وليسوا كَمَن إذا قُرِّب اليوم طالت يده في مال المسلمين، وإن أُبعد غدًا طال لسانه في أعراضهم، وهذا هو المنهج الإسلامي في الإصلاح، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عالمنا العربي من رياح الحرب وويلاتها.

(الطريق إلى السُّنة إجباري)

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة: 20/11/2015

عَمّان المحروسة بحراسة الله تعالى

4 thoughts on “منهج فقهاء السنة في صناعة الاستقرار وقتَ الفِتنة: الحاكم المتغلِّب بين التحليل الفقهي الأصولي والنشر الإعلامي

  1. نوفمبر 20, 2015 - غير معروف

    بارك الله فيك وهذا ما عشناه في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي وتعيشه أغلب البلدان اﻹسﻻمية اليوم

  2. نوفمبر 22, 2015 - غير معروف

    مقال كاف واف لمن كان له عقل فالهجوم على السنة او حتى العلماء انما يقصد به الاسلام كله فعلينا التمسك بشدة بالمذاهب الاربعة والحفاظ على السنة فلن يضل الله قوما بعد اذ هداهم وقد هدانا بها سبحانه وتعالى

  3. نوفمبر 22, 2015 - غير معروف

    جزاك الله خيرا شيخنا

  4. نوفمبر 22, 2015 - د. وليد شاويش

    حفظك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top