ما لا بد منه في دراسة مسائل التمويل الإسلامي…دراسة العقد لا تكفي

أولا: الدين النصحية:

لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية المصارف الإسلامية وأنها تجربة إسلامية رائدة، جديرة بالدعم والرعاية، والناس في شأن هذه المصارف بين المادح والقادح والناصح، وأحب أن أكون الناصح، أما الآخران المادح والقادح، لا يقدمان شيئا مفيدا، يمكن أن يثري في هذه التجربة القيمة، والتي ما زالت واعدة وتحتاج مزيدا من التطوير في مجال الفتوى والرقابة الشرعية، وليست هذه السطور القليلة إلا نصحا أضعه بين الباحثين في مسائل الصيرفة الإسلامية، فإن كان خيرا وفقهم الله للأخذ به، وإلا أسأل الله تعالى أن يصرفني عنه وأن يصرفهم عنه.

ثانيا: وجوب تصور المسألة بجميع عناصرها:

كثيرا ما تُطرح الأسئلة حول صيغ التمويل الإسلامية، ومن باب الأمانة والدقة في الإجابة، يَطلُب الباحث أو المفتي العقد الذي يوقع عليه المتعاقدان، وهما الزبون والمصرف أو مؤسسة التمويل، ليطلع على واقع المعاملة، ولكن في حقيقة الأمر لا يكفي الاطلاع على العقد لتصور المسألة في الواقع، من أجا تنزيل الحكم الشرعي المناسب، بل لا بد من الاطلاع على أمور أخرى، هي جِدُّ مهمة لتصور الواقعة محلَّ البحث وتنزيل الحكم الشرعي المناسب لها، وإن النقد البحثي الأكاديمي هو لإثراء التجربة المصرفية الإسلامية وتوجيه سيرها، لا لهدمها القدح فيها، وهذه الأمور هي ما يأتي:

1-القيد المحاسبي:

القيد المحاسبي يعني أن الجوهر يغلب الشكل، ومعرفة جوهر المعاملة هو الذي سيبين حقيقة المعاملة ولا يكفي الاسم، فالقيد المحاسبي يحدد طبيعة المعاملة مثل: وديعة أم قرض، أجرة أم ثمن، مما يعني أن الصيغ اللفظية المذكورة في العقد لا بد أن تكون متوافقة مع طبيعة القيد المحاسبي، الذي يقترب في الواقع من حقيقة المعاملة أكثر من ألفاظ العقد، التي قد تخالف الواقع في قيود المحاسبية، وبناء على أن  الحكم الشرعي لا يتعلق بالاسم، بل بحقيقة الممارسة وطبيعة المعاملة، هذه الحقيقة الأقرب إلى الثبات من تغيير الألفاظ في العقود، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، والمعاني تتمثل في القيد المحاسبي في المصرف، وليس بالألفاظ المكتوبة في العقد.

2-التعامل الضريبي:

إن التعامل الضريبي هو أيضا يوضح حقيقة المعاملة، لأن موظف الضريبة يعنيه تكييف الواقع بعيدا عن الألفاظ إذا كانت مخالفة لواقع التطبيق، ويصبح التعامل الضريبي أقرب إلى تكييف الواقع كما هو أكثر من صياغة العقد، التي يمكن أن تنحو منحى المقاربات اللفظية الشرعية، دون ملاحظة واقع المعاملة، فعلى سبيل المثال، تعبير “الهبة بشرط السداد”، هو بيع في الحقيقة وليس هبة، وهي مقاربة لفظية مرتبكة في التسمية، إذ الهبة تكون بلا مقابل، فكيف تكون مشروطة بسداد الثمن، والتعامل الضريبي مع الدين والملكية والبيع والدين، يقربنا أكثر من حقيقة الأمر، وتحديد البائع من المشتري، والدائن من المدين، والمؤجر من المستأجر، وقد يتعدى الإشكال أحيانا إلى ركن الزكاة الزكاة فمن يدفع ثمنا في البيع تختلف زكاته عمن يدفع الأجرة، والالتباس بين الثمن والأجرة، يؤدي إلى اللبس في إخراج الزكاة.

3-القانون الحاكم للمعاملة في حالة النزاع:

لا بد أن يكون مرجع المعاملة قانونا ينضبط بضوابط الشرع، لأنه في حال النزاع سيطبق القانون، وليس الفتاوى ولا القرارات المجمعية أو المعايير الشرعية، فعلى سبيل المثال قانون التأجير التمويلي هو الذي يطبق على المصارف التجارية الربوية، وهو أيضا المرجع القانوني للمعاملات في المصارف الإسلامية، وأن المعايير الشرعية وقرارات المجامع الفقهية ليست مرجعية ملزمة، بل المرجع الملزم هو القانون، وقانون التأجير التمويلي لا يلتزم بالمرجعية الفقهية الإسلامية في تنزيل أحكامه على العقد، وأنه يجدر بالعاملين في حقل التمويل الإسلامي والمجتمع الضغط باتجاه مرجعية قانونية ناظمة لجميع معاملات المصرفية الإسلامية، بناء على فقه المآلات الذي لا بد أن يكون حاضرا في المعاملات المالية الإسلامية.

وعلى سبيل المثال، عندما أخفقت شركة نخيل في دولة الإمارات العربية، لم يحكم صكوكها الإسلامية لا معايير شرعية، ولا قرارات مجمعية فقهية، ولا قوانين محلية، بل حكم فيها القانون الإنجليزي (English common law)، واقرأ النص الآتي موثقا في ذلك:

On the side of civil law, one sees a lack of predictability, transparency, and consistency. Full codification of law, which is needed for predictability, is not implemented in the countries under civil law regimes. The problems posed by civil law can be witnessed in the recent Nakheel Sukuk case, in which there was confusion over which law should be adopted when Nakheel declared itself in a state of default. Because the Nakheel offering circular was governed with English common law while the sukuk transactions took place in a civil law jurisdiction, there was a conflict when the investors sued Nakheel for capital repayment in Dubai’s civil court. The investors could sue in English courts as well as in the United Arab Emirates, the seven-member federation that includes Dubai. Nevertheless, even if they win and the court orders seizure of the assets, the foreign law ownership as well as sukuk agreement cast doubts over whether the law is enforceable in the UAE (Kasolowsky & Abocar, December 2009). Consequently, the investors’ rights are restricted from what was promised in the offering circular. Therefore, this indicates that civil law is not yet predictable and flexible enough to be enforced in governing jurisdiction

Jhordy Kashoogie Nazar Regulatory and Financial Implications of Sukuk’s Legal Challenges for Sustainable Sukuk Development in Islamic Capital Market, 8th International Conference on Islamic Economics and Finance,p. 8.

4-موافقة الشروط لمُقتضَى العقد:

لا يعني أن العقد شريعة المتعاقدين، أن يد المتعاقدين مطلقة في تحرير شروط العقد، فلا يجوز اتخاذ عقد بعنوان عقد إجارة، وتحويله بالشروط إلى عقد ربا بفائدة في المعنى، كتمويل المنافع والخدمات، كأن يحوِّل الممول بائع خدمة التعليم للطالب، ضمان تقديم الخدمة على الجامعة مثلا في بيع منافع التعليم، ويشترط الممول نسبة مضمونة من قيمة المنافع، هي أقرب إلى نسبة الفائدة الربوية، بسبب تفريغ عقد الإجارة من مضمونه وحشوه بمضمون عقد القرض، بتحويل المخاطر للجامعة، ويدخل في ربح ما لم يضمن، وتصبح علاقته في الجملة تقديم رأس مال نقدي، دون التزام بمقتضيات عقد الإجارة، وضمان الأجرة زيادة على رأس المال، ونصبح هنا أمام حالة من التماهي مع الإقراض الربوي المحرم وبين إجارة مشوهة، بسبب تفريغ عقد الإجارة من مقتضياته الشرعية.

5-عدم مخالفة شروط الاجتهاد:

كثيرا ما نشرتُ وكتبت بضرروة مراعاة ضوابط الاجتهاد في جميع مسائل الفتوى، وعلى الأخص منها المسائل المالية، فإن ضوابط الاجتهاد العامة هي معايير المعايير الناظمة للمالية الإسلامية، ولا بد من التأكد من سلامة أي معيار من عَدم خدْش ضوابط الاجتهاد وهي: النص، والإجماع، والقياس الجلي، والقاعدة، فإنْ تعدد الاجتهاد دون مخالفة واحد من هذه الضوابط الأربع، فهو اجتهاد معتبر وثري، يفيد في مراعاة الخصوصة والاختيار تحت سقف الشريعة، أما إذا خالفها فهو قول شاذ، لا يَحِل العمل به ولا الفتوى ولا القضاء، وقد أعطيتُ مثلا على الشذوذ بنقل عبء الإثبات في التعدي والضرر في المضاربة من رب المال إلى العامل، وكما هو معروف، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والخراج بالضمان، فلا يجوز نقل المخاطر وتحويلها بالجملة للعميل، وتحويل المكاسب بالجملة للمُمول، وأن الضوابط الشرعية في المسائل المالية، هي حماية من الاستبداد المالي، الذي يتحول فيه المال إلى سلطة، تغتال العدالة، ويصبح المجتمع أسيرا لعقود منحازة باتجاه رأس المال.

6- إجراءات التنفيذ:

بعد أن تمر صيغة الاستثمار بجميع الاختبارات الماضية في تصور حقيقتها وسلامتها من خوارم الاجتهاد، لا بد أن تكون الإجراءات مطابقة لحقيقة التعامل، فما كان بيعا لا بد أن يكون بيعا فعلا، ولا يتحول عبر الإجراءات إلى علاقة دَيْـنية محضة، بحيث يصبح التعامل بالأوراق والفواتير، ويصبح عمل المصرف هو تمويل الفاتورة التي يأتي بها الزبون، دون أن يكون هناك ارتباط حقيقي بالسلعة والقيمة المضافة للاقتصاد، لا أن تكون السلعة ساترة لعلاقة دين بلفظ البيع، وهي بعيدة كل البعد عن البيع، وعليه؛ لا بد أن تكون الإجراءات سليمة ومتجانسبة مع صيغة التمويل، ومراعية لأصلها الشرعي.

7- مثال على الخلل العام في تصور المسألة في الواقع:

لذلك لا يمكن أن يكون الإفتاء وإبداء الحكم الشرعي في مسائل التمويل الإسلامي وغيرها، إلا بعد تصور محَلّ الحكم بدقة: محاسبيا وضريبيا وقانونيا وإجرائيا، وفق ضوابط الاجتهاد الشرعية، ورعاية المقصد والمآل شرعا، وأن لاتتحول معاملاتنا الإسلامية إلى صورة من انفصام الشخصية بين الألفاظ والمعاني، والتطبيق الذي يعيش في وادٍ مختلف، ويعيش الفقهاء مع العقد، بينما الواقع الاقتصادي شيء آخر، ولاحِظ النص الآتي بتمعن: (ينظر الفقهاء إلى الصكوك بوصفها أدوات مالية تحقق دخلا ناتجا من أصول حقيقية تدعم إصداراتها،  في حين ينظر السوق فعليا إلى الصكوك على أنها أدوات ديون تحقق دخلا ثابتا يعتمد بشكل أساسي على التصنيف الائتماني الممنوح لمصدر الصكوك) ، انظر: إدارة الخزينة في البنك الإسلامي للتنمية، إخفاق وإعسار بعض إصدارات الصكوك الأسباب والآثار، ندوة الصكوك الإسلامية عرض وتقويم، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، 10-11/جمادى الآخرة 1431ه/ الموافق 24-25مايو 1910، ص16، فواضح من النص السابق أن الفقهاء يتعاملون مع بعض الصكوك على أنها ملكية وشركة، أما الاقتصاديون فينظرون لنفس الصكوك على أنها سندات دين ربوية.

وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) سورة هود.

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

15-7-2016

6 thoughts on “ما لا بد منه في دراسة مسائل التمويل الإسلامي…دراسة العقد لا تكفي

  1. يوليو 16, 2016 - غير معروف

    لله درك، درر

  2. فبراير 3, 2019 - غير معروف

    مقال يكتب بماء الذهب

  3. فبراير 4, 2019 - محمد الخشاشنه

    فتح الله عليك جعلك كالغيث اينما وقع نفع

  4. أبريل 18, 2020 - غير معروف

    بارك الله فيك وجزاك خيرا

  5. أبريل 18, 2020 - غير معروف

    جزاكم الله خيرا

  6. أغسطس 28, 2021 - حسين العتيبي

    جزاك الله خيرا ونفعنا الله بك وزادك من فضله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top