في محكمة الوحي …مع المدعي العام بالحق الشرعي (عمر بن الخطاب رضي الله عنه)

تمهيد:

عندما أتقدم إلى الوراء أو أرجع إلى الأمام، حيث مهبط الوحي وتنزُّلُ الحق على قلب خير الخلق، أجد ما يواسيني ويواسي الإنسانية المعذبة على يد رجال الدين ورجال اللادين، وأُدرِك بأنه لا ظلم في الشريعة، ولا عدل خارجا عنها، وأن البشرية لم تظلم نفسها إلا عن جهل وعناد لنبيها محمد -صلى الله عليه وسلم، وليست شعارات ما يسمى بالعدالة المعانِدة للرسالة إلا مسوح الرهبان في معبد الشيطان، يدل على ذلك محاكم العدالة المزيفة، التي تقام على الأراضي المسروقة في فلسطين وغيرها من أرض الإسلام.

أولا: سيف عمر وراء القضاء:

كثيرا ما تروي لنا الأخبار الصحيحة سيف عمر رضي الله عنه بين يدي القضاء، طالبا إيقاع أشد العقوبة بالمخالفين للشرع، المتعدين على المجتمع، بقوله رضي الله عنه: مُرْني أضرب عنقه يا رسول الله، حيث يقف عمر شرطيا إلى جوار القضاء، في مرجعية واضحة للقوة، وأنها منضبطة بمرجعية الشرع والقضاء، وأنها لا يمكن أن تنفُذ إلى بعد صدور حكم قضائي نافذ، وأنه لا يمكن للسيف يوما أن يكون محكوما بعصبية جاهلية رعناء، أو بمكاسب مادية دنيوية ضيقة، لحساب حزب، أو جماعة، ليعلم المسلمون أنه لا خير في قوة تتجاوز الشرع ومؤسساته القضائية والشرعية، وأن هذه هي سنة المؤمنين بالله في عيشهم، وأن هذا الشرع هو وضع إلهي، لا يخضع لهيمنة رجال الأعمال، وأحبار التضليل الإعلامي الذين يقع على عاتقهم صناعة الرأي العام، حسب مواصفات قوى النفوذ، ثم توجيه القوة المسلحة حيث يشاء رجال الدين واللادين.

ثانيا: قصة حاطب في فتح مكة نموذجا:

1-الوحي يُحرِّك الدعوى ليُعلِّم الأمة سُنة القضاء:

بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير بجحافل الحق والإيمان إلى مكة، بسبب خيانة المشركين لصلح الحديبية، ويُخفي ذلك حتى يفاجيء المشركين، وإذا بالوحي ينزل ويُعْلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بأن حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه، قد أرسل كتابا لقريش، يخبرهم فيه بسِرِّ النبي -صلى الله عليه وسلم وسَيره إليهم، وبعد إخبار الوحي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- أن يأتي بالكتاب، وأن الكتاب مع امرأة في مكان كذا وكذا.

2-الأمن العسكري لجيش النبوة يتابع الأمر:

وفورا ذهب علي رضي الله عنه، وحقق مع المرأة حسب الوصف الذي جاء به جبريل عليه السلام، وأتى بالكتاب وتم استدعاء حاطب -رضي الله عنه- للتحقيق، ومعرفة ملابسات الجناية، وهي تهمة التجسس للعدو، وموالاة الكافرين، وأي كافرين هم كفار قريش، على المؤمنين وأي مؤمنين، وهم الجيل الأول بينهم خير النبيين -صلى الله عليه وسلم، في قضية ثابتة بشهادة الوحي النازل من السماء، ومع ذلك لم يُترك الأمر للتنفيذ مباشرة، بناء على صدق الوحي وشهادته، بل عُقدت المحكمة النبوية للنظر في القضية، لتَسُنّ للمسلمين كيف يكون نظام الاتهام والقضاء والسيف.

ثالثا: مجريات التقاضي حسب رواية الإمام البخاري في الصحيح:

1-المضبوطات: دليل مادي يتمثل في كتاب حاطب الذي أرسله لقريش.

2-المداولة: (سماع المتهم، والمدعي العام بالحق الشرعي عمر بن الخطاب) رضي الله عنهما، وفيما يأتي نص المداولة.  

الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب، ما هذا؟».

حاطب: يا رسول الله، لا تعْجَل علَيَّ، إني كنت امرأ مُلْصَقا في قريش، ولم أكن من أنفُسها، وكان مَنْ معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب فيهم، أَن أتخِذ عندهم يدًا يحْمُون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.

الرسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم».

عمر (المدعي العام بالحق الشرعي): يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق.

الرسول -صلى الله عليه وسلم: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

رابعا: تحليل مُجْريات التقاضي والمداولة:

1-بالرغم من أن الوحي هو الذي كشف الحدث وحرك الدعوى، إلا أن الوحي لم يتدخل خلال المداولة مع عِلْم الله تعالى بحاطب -رضي الله عنه، واتخذ التحقيق القضائي مجراه حسب الظاهر للكشف عن حقيقة جناية حاطب مع أن الله أعلم بنيته، ولكن الله تعالى أراد لنبيه أن يعلِّم أمته سنة القضاء في الدماء والأموال والأعراض، وأنه على الظاهر وليس على النوايا والقلوب، بل وليس على الوحي القاطع، لذلك سأل النبي -صلى الله عليه وسلم حاطبا- رضي الله عنه.

2-هيبة القضاء النبوي بسيف عمر -رضي الله عنه، الذي يخافه المُرْجفون في المدينة، وأن هذا السيف حامٍ للعدالة، لا يتقدم عليها بل تتقدم عليه، وقوة عمر وسيفه كانا في الحق وبه ومعه وله.

3-جاء سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- للاستفسار والاستعلام عن الفعل، لأن الفعل مجْمَل (أي مُحْتمِل) إذا تجرد عن القول، يعني محتمِل للكفر من عدمه، ويحتاج تفسيرا من المتهم، فقد يحتمل أنه فعله ولاء للكفار كرها في الإسلام، وأنه محتمل لسبب آخر كرغبة في دنيا، أو خوف من أحد، أو وقع تحت الإكراه، وفي هذا تعليم للأمة كيف يكون القضاء العادل، الذي يعطي الحق للمتهم بالدفاع نفسه بحرية تامة، ولا يتعجل في دماء الناس.

4-مع أن فِعْل حاطب كان جناية واضحة، إلا أن حاطبا ترافع في القضية لدفع الاحتمال الأخطر وهو الكفر، فاجتهد في دفع التهمة الأخطر وهي الردة بموالاة الكافرين، لأنه يعلم أن الكفر بموالاة الكافرين إنما يكون كفرا إذا رافقه قصد الكراهية للإسلام والمسلمين، فبادر بقوله: (وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام) وكان دفاعه هنا بذكر موجب الكفر بالموالاة، وهو نصرة الكافرين على المسلمين كرها في الإسلام وأهله.

5-أبدى حاطب خوفه على أهله في مكة وأنه ضَعُف أمام خوفه على أهله من الحرب، وأراد أن يوفر لهم الحماية، وهذا خوف على النفس، وفيه شائبة الإكراه، وقد عرفنا ذلك بعد التحقيق.

6-القضاء الشرعي يكون بحسب البينات والأدلة، ولا يجوز أن يكون بحسب الوحي مع أنه صادق وقاطع، وحاكَم النبي صلى الله عليه وسلم- حاطبا على البينات، لا على أساس خبر الوحي مع أن الوحي يتنزل، ليعلِّم المسلمين، أنه لا توجد محاكم تفتيش عن القلوب، كما هو عند رجال الدين، ولا قانون سرية الأدلة، ولا وُجدان المحكمة وقناعتها عند رجال اللادين، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ)، وليس على قناعتي بالأدلة ووجداني، وذلك ليحذر من هيمنة الشعور والشخصية في حقوق العباد في مجلس القضاء.

7-بعد أن تم نفي تهمة الكفر والتجسس في مجلس القضاء، انتقلت العقوبة إلى التعزير الذي فوضه الشرع لتقدير الحاكم، بحسب ما يراه من مصلحة، ورأت محكمة النبوة العفو عن حاطب لسبقه في الإسلام وحسبك بيوم بدر شرفا، ومراعاة حاله وخوفه على أهله، وهذا أصل شرعي في القضاء.

8-الحكم بآثار الردة وتطبيقها شأن قضائي وراءه سيف عمر، وأن سيف عمر لا يتقدم على القضاء، فمَن كان آخذا بالسلف، فهذا هو السلف الصالح، وهذه طريقة المسلمين في بناء مجتمع العدالة والعُمْران.

9-إن الغلو بتكفير المسلم غيابيا بمجرد الفعل المحتمِل بحجة الولاء والبراء مع احتمال الأفعال للكفر والإيمان والخوف والإكراه،  هو اعتداء على قضاء النبي -صلى الله عليه وسلم، ومحاولة لكسر سيف عمر رضي الله عنه، واستبداله بسيف مزوّر باسم الإسلام، يهدم الشرع ولا يحميه، والأصل الشرعي هو اسصحاب الإيمان والإسلام الثابت بيقين ولا يثبت الكفر إلا بيقين، ولا يقين مع كون الفعل محتمِلا في مسائل الكفر والإيمان، وما يحدث الآن من سفك الدماء المعصومة باسم الدين هو مخالفة صريحة لسنة القضاء النبوي.

10-القضاء في الشرع كله مستعجَل، وتم الإفراج عن حاطب فورا، بعدما تبين الحق، لأن القضاء في الشرع من باب إنكار المنكر، وإنكار المنكر واجب على الفور.

11-إن حدّ الردة في الشرع أمر قضائي، بخلاف حدِّ الإسلام في الفكر اللاديني، الذي يُطبَق على المسلمين بالصورايخ والطائرات، وشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، دون تفريق في إقامة حدِّ الإسلام على المسلمين بالجملة: نساء، وشيوخا، وأطفالا، مما يعني أن رجال اللادين لا وقت لديهم لإقامة محاكم التفتيش كما عند سلفهم من رجال الدين في أوروبا، فرجال اللادين يقتُلون بلا تفتيش أصلا، ومن يُشْبه أبـَــه (هكذا رويت دون ألف) فما ظلم، ولكن الولد هنا أظلَمُ من أبيه، ألا بئس الخلف وبئس السلف.

12-القضاء في الشرع يجب أن يبقى قائما حتى في وسط المعركة والجيش كما رأينا في جيش النبي -صلى الله عليه وسلم، والعدالة المؤجلة بسبب الظروف تعني تعطيل الشرع.

13-قطعي الاستقرار ووضوح المرجعية وثباتها ضروريان لإقامة مجتمع العُمْران، وشرطان لإقامة العدالة، أما الفكر اللاديني فهو عائم هائم، يستفيد منه الأقوياء، ويظلم فيه الضعفاء، وقوله تعالى: (وقل الحق من ربكم) يقضي على رجال الدين واللادين وهم أجنة في بطون ضلالاتهم.

14- إن قوما آمنوا بمحكمة النبوة وإجراءاتها وعدالتها، عيب عليهم كل العيب أن تتجه أنظارهم إلى من أقاموا ما يسمى محاكم العدالة على أراض مسروقة، وإن وجها يستقبل القبلة كل يوم في الصلاة عيب أن لا يجد العدالة في سنة نبيه، ثم يذهب يبحث عن العدالة في مسوح الرهبان في معبد الشيطان، وهو كمن يبحث عن الماء البارد وسط النار.

15-القوة لا تصنع العدالة في الإسلام لأن العدل من عند الله : لقوله تعالى (وقل الحق من ربكم)، وهذا يعني أننا نؤمن بقوة الشرعية، أما في الفكر اللاديني فهو قائم شرعية القوة، وقد تبين أن عدالة القضاء في الإسلام مستندة إلى عدالة الشرع من عند الله، وفيما ذكرته كفاية ويفي بالغاية، وأقول: أعيدوها على قواعد إبراهيم.

مقالة ذات علاقة: تكفير الأشخاص بأعيانهم حكم قضائي ليس من باب الفتوى

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة في عمان المحروسة

10-3-2017

5 thoughts on “في محكمة الوحي …مع المدعي العام بالحق الشرعي (عمر بن الخطاب رضي الله عنه)

  1. مارس 10, 2017 - لؤي جانم

    من الروعة بمكان. نفع الله بكم وبعلمكم.
    تحليل في غاية الدقة لتحقيق مقاصد الشرع.
    هكذا يكون الدين عزيزًا ومعزًا لأتباعه.

  2. مارس 10, 2017 - د. وليد شاويش

    حياكم الله أبا البراء

  3. أغسطس 16, 2018 - غير معروف

    ابدعت وانصفت والحق نطقت امرؤ نور الله قلبه زادك الله علما وبقينا وفتحا مبينا اشكرك من قلبي وحزاك الله خيرا

  4. أغسطس 16, 2018 - غير معروف

    الله يجزيك الخير دكتور

  5. أغسطس 17, 2018 - مثنى الراوي /عمان

    اي والله أعيدوها على قواعد ابراهيم فهي سفينة النجاة جزيت خيرا د وليد أعز ك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top