دليل الحقيقة الشرعية ودورها في مكافحة الحيل الربوية في المالية الإسلامية

تمهيد:

1-من الخطأ الفادح في حق الشريعة شيوع المفهوم الخطأ في الدليل وهو: أن الدليل إما نص من كتاب أو سنة، وما سوى ذلك فلا يعد دليلا، ولا يحتاج هذا القول شرحا طويلا لدحره، فتكفي مطالعة أي مصدر من مصادر الأصول لمعرفة سعة أدلة الشريعة، وحيويتها وقدرتها على الامتداد، وصناعة التجديد في كل زمَكَان، خصوصا وأن الرأسمالية المترنحة عاجزة عن تحقيق العدالة، بعد أن تحول رأس المال إلى سلطة محتكِرة، وحل إقطاع الشركات الكبرى بما فيها البنوك، محل إقطاع الأراضي البائد.

2-ومما يؤسف له كل الأسف أن المالية الإسلامية، التي يتوقع أن تكون خط الدفاع الأخير  للإنسانية، أصبحت تتماهى مع الواقع الاقتصادي التقليدي نفسه، ونهجت نهج المقاربات اللفظية مع المالية الرأسمالية، دون شعور عامة المسلمين بفارق جوهري في الحياة اليومية بين الصيرفة الإسلامية والتقليدية الربوية، مما يعني أن الإنسانية تفقد خط الدفاع الأخير في مواجهة الاستبداد الرأسمالي المتوحش -لا قدر الله- إذا استمرت المالية الإسلامية الحالية بانغماسها في تلك المقاربات العشوائية في الألفاظ، بعيدا عن تحقيق مفهوم العدالة في الإسلام بشكل محكم يقطع الشك باليقين، ويشعر به الإنسان حقيقة، وإن لم يفقه الفروق العلمية الدقيقة، وهذا الشعور بالعدالة كافٍ، كشعور العطشى بروي الماء الزلال، وإن لم يفقهوا تركيبة الماء الكيميائية، وكيمياء الارتواء.

أولا: عرض لشيء من الواقع:

 لا نجد دليلا من النص الشرعي على أن ضمان رأس مال المضاربة مع نسبة من رأس المال هو حرام، ويلجأ بعض الباحثين في المالية الإسلامية إلى مقولات عامة تصبح حلا سحريا لقبول كل جديد، دون الالتفات إلى أن منهجية الاستدلال في الفقه، القائمة على الاستنباط من الأدلة الجزئية التفصيلية، وليس مقولات عامة غير قادرة على ضبط مفاصل ومعاقد المالية الإسلامية المرتكزة على الفقه الإسلامي، ومن هذه المقولات العامة:

1-إن العقد شريعة المتعاقدين.

2-وإن الأصل في المعاملات الإباحة.

3-ولا يوجد دليل من النصوص على أن ضمان رأس المال مع نسبة من الربح حرام.

4-وأن ما شرطه الفقهاء لا دليل عليه من الكتاب والسنة.

5-ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.

6-هذا بالإضافة إلى الرؤية الهشة في المقاصد وفقه المآلات، التي تحولت إلى مقاربات عقلية خاصة، مما سمح بإقحام رؤى عقلية خاصة على الفتوى بصفة عامة، والمعاملات بصفة خاصة، مما أدى إلى تشويه المقاصد الشرعية وفقه المآلات، وتحويلها إلى طرق التفافية على الشريعة.

7- وإن ما قاله الفقهاء في مدارس فقه السلف الأربع ليس معصوما، وذلك لتسويغ هِجْرانها وإقصائها.

هذا في الجملة مما أدى إلى هجر ضوابط الاجتهاد وشروطه، والبحث عن الآراء الشاذة لتسويغ التماهي مع الاقتصاد التقليدي، ويحدث ذلك في ظل غياب معايير حاكمة وضابطة، للفصل بين القول الشاذ الذي يحرم العمل به والفتوى والقضاء والعمل، وبين الاجتهادات المعتبرة التي سمح الشرع بتعددها، لأنها تتقلب بين أجرين للمصيب، وأجر واحد للمخطئ، وأصبحنا أمام حقائق مشوهة، على النحو الآتي بيانها في “ثالثا”.

ثانيا: توضيح المقصود بالحقيقة الشرعية بوصفها دليلا (المضاربة والربا نموذجا):

1-بين حقيقة الربا وحقيقة المضاربة:

إذا تأملنا دليل الحقيقة الشرعية، كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للمسيء صلاته، ارجع فصل فإنك لم تصل، فالأصل أن كل أفعال الصلاة واجبة إلا إذا دل دليل خلاف ذلك، وأن هذه الحقيقة الشرعية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليل بنفسها، يطبق على كل صلاة، فإذا نهى الشرع عن الربا، وهو فعلا ضمان رأس مال القرض مع زيادة مضمونة بنسبة معلومة من رأس المال، ووجدنا أن المضاربة إذا اشترط فيها ضمان رأس المال وبنسبة ربح معلومة ومضمونة منه، أصبحت المضاربة هنا هي عين الربا، ولو  كان الربا بألفاظ المضاربة، والعبرة بالمعاني لا للألفاظ والمباني، مهما حَرَص المكلَّف على صناعة المقاربات اللفظية، وذلك لن يفيد شيئا من الناحية الشرعية، والحقيقة الشرعية هي التي سيتنزل عليها الحكم المناسب، لا بحسب الأسماء التي يطلقها المكلف، بطريقة تعسفية وتحكمية على الحقائق الشرعية.

2-التماهي بين المضاربة والربا:

أ-والذين وقعوا في شَرَك مقولة: أن الأصل في المعاملات الإباحة، وأن العقد شريعة المتعاقدين وغيرها، غاب عنهم أن ما أباحوه باديَ الرأي ما هو إلا الربا بعينه، وأن محاولات تضمين العامل رأس المال، مع نسبة مضمونة من الربح، هي الربا بعينه، وإن نقل إثبات عدم التقصير للعامل، هي حالة مقاربة مع الربا، وخدمة لرأس المال الذي يملكه رب المال في المضاربة، لأن التكليف بإثبات العدَم لا يعرف شرعا، ويتنافى مع أن الأصل براءة ذمة العامل في المضاربة، بينما نجد أن الشرع طلب من رب المال أن يثبت تقصير العامل، لأن رب المال مُدّعٍّ والعامل منكر، والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.

ب-قال الإمام مالك -رحمه الله: إنما ينظر في البيوع إلى الفعل ولا ينظر إلى القول، فإن قَبُح القولُ وحَسُن الفعل فلا بأس به، وإن قبُح الفعل وحسُن القول لم يصْلُح) المدونة (3/ 169)، فقول الإمام واضح في أن  الحسن لا يحسن الفعل القبيح، ولا يضر الفعل الحسن أن يُسمّى بالقبيح، وقال الإمام الذهبي في فقه مالك: (وبكل حال: فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل، ومراعاة المقاصد لكفاه) انظر: سير أعلام النبلاء، وليس الإمام مالك وحده في الاتجاه بل مدارس فقه السلف الأربع متفقة على أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني.

ثالثا: نماذج يجب مراجعتها وفق دليل (الحقيقة الشرعية):

1-الإجارة بنكهة البيع (الإجارة المنتهية بالتمليك):

إذا جعلنا عقد الإجارة ينتهي بالتمليك، فهذا يعني أننا أمام نوع جديد من المحاشي، وهي الإجارة بحشوة البيع، وإذا كانت الإجارة تنتهي بالتمليك، فلم شرع الله البيع؟ فالإجارة لم تُشرع لنقل ملكية العين، بل هو شأن نقل الملكية موضوع عقد البيع لا الإجارة، فتجد أن المستأجر يتوهم أنه مشترٍ، والمؤجر يتوهم أنه بائع، والتبس المشتري بالبائع، والبائع بالمشتري، واشتبكت المعاني بالألفاظ، ومقاصد المكلفين لا تنسجم مع طبيعة العقد، ولكنها في النهاية محكومة بقانون التأجير التمويلي وهو القانون نفسه المطبق على على البنوك التقليدية الربوية.

2-البيع بنكهة القرض (صكوك الأعيان):

يتم بيع العين في الصكوك الممثلة للأعيان للمستثمرين،  ولكن هذا البيع ينتهى بما يسمى وقت الإطفاء لوثائق الملكية، مع أن الإطفاء خاص بالسندات، يعني يبيعك عمارة لمدة عشر سنين، ولك كل حقوق الملكية من الاستغلال وبيع الصك الممثل لملكيتها، حتى يبلغ الصك أجله، فيدفع لك قيمة الصك في السوق مثلا، أو بقيمته الاسمية، وهذا لا يتفق مع تأبيد الملكية، وهنا يحتاج المجوِّزون إلى كثير من التحكم والتعسف في الأسماء، والكلمات المعتادة السابقة، العقد شريعة المتعاقدين، وإدخال الشركة ذات الغرض الخاص محللا للملكية المزيفة، وهذه الشركة في هذه الحالة تمثل التيس المستعار في الأموال، لتسويغ كل التجاوزات في أموال المجتمع لحساب رأس المال، ولكنها تبقى في النهاية مقاربات لفظية، لتسمية الأشياء بغير أسمائها بسبب تشوه الواقع، وتصبح الحقائق الشرعية تعاني مشوشة بين الدَّيْنية والملكية، مما أبرز الحاجة إلى الهروب من تسمية سهم الذي يمثل الملكية، وتسمية سند يمثل الدينية، إلى تسمية جديدة وهي تسمية صك، خليطة بين الدينية في النهاية، والملكية في البداية، مما يعني انقلاب حقائق العقود من دين إلى بيع وبالعكس.

3-الإجارة بنكهة القرض أم القرض بنكهة الإجارة (تمويل المنافع):

أ-قمت بإعداد بحث حول تمويل التعليم الجامعي عن طريق مرابحة المنافع، حيث يمكن للجامعة أن تبيع الخدمة للمصرف، ثم يقوم المصرف ببيعها للطالب بربح، بشرط أن يكون الالتزام بين الطالب والمصرف، ويلتزم المصرف بكل مخاطر بيع المنفعة للطالب، والمسؤولية عن توفير الخدمة، ولكن ماذا لو باع المصرف الخدمة الجامعية للطالب، بشرط أن يتحمل الطالب مخاطر البيع، كتوقف الخدمة الجامعية لسبب أو لآخر، وفي حالة حصول أي قصور في أداء الخدمة، فإن الطالب لا يعود على المصرف بل على الجامعة؟

ب-فهذا يعني أننا أمام ألفاظ الإجارة بتقديم رأس مال مضمون مع شرط ربح زائد، مع إحالة كل مخاطر الإجارة للجامعة والطالب، واستئثار رأس المال بزيادة مضمونة، وهنا يتم اللجوء إلى مقولات عامة:  العقد شريعة المتعاقدين إلخ، من تلك الأقوال التي أصبحت أمثالا سائرة وحِكَما دائرة، في أروقة المالية الإسلامية مع الأسف، وتم تشويه الحقيقة الشرعية للإجارة ومقتضياتها، بخلطها بحقيقة الإقراض بفائدة، فإن سألت عن الشرع فألفاظه موجودة كاملة، أما الحقيقة فإنه تم تفريغ عقد الإجارة من معنى الإجارة، وتم حشوه بالقرض الربوية، بسبب التغيير على الحقيقة الشرعية للإجارة.

4-الهبة بحشوة البيع (الهبة بشرط السداد)!

 بعد أن تم تسمية البيع إجارة، أو الإجارة بيعا في الإجارة المنتهية بالتمليك، برزت الحاجة إلى طريقة ما لنقل الملكية إلى المستأجر، الذي دفع الثمن في المعنى وليس الأجرة حسب الألفاظ، فاختُرِعت حيلة الهبة بشرط السداد، حيث تنتقل العين المبيعة للمستأجر عن طريق الهبة بشرط السداد! يعني بعد أن شُوه البيع والإجارة في الإجارة المنتهية بالتمليك، تم اللجوء للهبة بشرط السداد، للاعتراف بحقيقة العقد وأنه كان بيعا لا إجارة، وأن المستأجر دفع الثمن وليس الأجرة، ولكن السداد سواء كان للثمن أم للأجرة، لا ينفع ولا يضر، لأن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها، وعلى كل حال إذا كانت الهبة بشرط السداد! فما هو البيع إذن؟ أم أننا أمام الهبة بحشوة البيع، أم ماذا؟!

5-التبرع الملزم!

في حالة تخلف المدين عن التسديد، فإن عليه أن يتبرع إلزاما لجهة خيرية، مما يعني أن شخصا ما عجز عن سداد دينه، فيجب عليه أن يتبرع بالإلزام لجهة خيرية، عقوبة على تأخره في السداد، ولكن: ألم يكن من الأولى سداد دينه بدل إلزامه بالتبرع، الملتبس بين العقوبة والغرامة والتبرع، وإذا أصبح التبرع إلزاميا وعقوبة على العجز، فما معنى التبرع شرعا؟ وإن كان مجبرا على التبرع فيعني ذلك انعدام نية القربة لله تعالى، فلا هو مأجور في تبرعه، ولا مستفيد في سدد دينه، وذهب ماله هدرا، كل ذلك نتيجة الاعتداء على حقيقة التبرع الشرعية، لصالح رأس المال الذي أصبح سلطة، وهذه حالات تستعصي على التفسير، وأين فقه المقاصد والمآلات في هذ التبرع الملتبِس؟!

رابعا: ملاحظات لا بد منها:

1-كل ما تقدم هو في سبيل النقد البنَّاء للمالية الإسلامية، ولا يجوز بحال أن يستفاد من النقد البناء، لصرف الناس عن التمويل الإسلامي، وتسويغ البنوك التقليدية الربوية، ولا يمكن أن يقلل المقال بحال من أهمية الصيرفة الإسلامية وأنها تجربة إسلامية، تحتاج إلى ترشيد، وهي أحوج للناصح، لا للمادح ولا للقادح.

2-لا بد من من تكوين مرجعية إفتاء مستقلة إدارة وتمويلا في مجال الفتوى في المسائل المالية.

3-لا بد من تحديد الاجتهاد المعتبر الذي يمكن أن يتعدد، ويعطي مساحة للاختيار، وحسم مادة الأقوال الشاذة، وفق ضوابط الاجتهاد: النص، الإجماع، القياس الجلي، القاعدة الفقهية.

4-مراعاة المقاصد الشرعية وفقه المآلات في حماية المالية الإسلامية من الوقوع في فخ الابتلاع الرأسمالي في الغرب، ونزوح رأس المال الإسلامي للاستثمار في أدوات مالية إسلامية في الغرب، بينما ديارنا الإسلامية تعاني من تأخر التنمية بدعوى شح رأس المال، أم أن الرؤى المقاصدية وفقه المآلات أصبحت فن رد الأدلة الجزئية التفصيلية، وتسويغ الآراء الشاذة.

5-إن الهندسة المالية الإسلامية لها فائدتها ولها مكانها، ولكن ليس من مكانها التغيير على الحقائق الشرعية، لأن هذا يعني: الخطأ في تنزيل الأحكام ذات العلاقة بهذه الحقائق، ومن ثَم فصل الشريعة عن التنزل عن محلها بشكل صحيح.

6-تحقيق المناط في الشريعة ينزل الحكم الشرعي على محله بطريق المقايسة، والإخلال بهذه الحقائق يعني تخريب محل الحكم، وذلك على النحو المبين في تنزيل مناط المضاربة الجائزة على الربا المحرم، على النحو الموضح في المثال السابق.

7-المالية الإسلامية هي خط الدفاع الأخير في مواجهة الاستبداد الرأسمالي، وتماهيها مع ذلك الاستبداد يعني أن تغييب رسالة الإسلام وأنه رحمة للعالمين، بسبب تغيير الحقائق الشرعية.

8-لماذا لا تحضر اللغة المقاصدية وفقه المآلات إلا عند الالتفاف على ضوابط الاجتهاد الشرعية، بينما لا تحضر الرؤية المقاصدية وفقه المآلات عند تمويل الاستهلاك المزيف هواتف ذكية، وغرف نوم وشاشات مسطحة، بينما تعاني قطاعات الإنتاج الحقيقية من زراعة وصناعة، ومرافق حيوية، من نقص التمويل لضعف مردودها الربحي مع أن مردودها الاجتماعي عال، ولماذا نلاحظ غياب التمويل طويل الأجل للمصالح الحيوية للمجتمعات الإسلامية.

9-على البنوك الإسلامية أن تنتبه أن النقد هو الذي يصلحها ويطورها، وأن النقد لا يقلل من القيمة العلمية والشخصية لهيئات الرقابة فيها، بل هو خدمة يقدمها الباحثون والرواد، والرائد لا يكذب أهله، وعليها أن تستجيب للنداء، خصوصا النداء الأخير.

10-لا يعقل أن يجابَه النقد البناء في مجال الصيرفة الإسلامية بأن يجاب عليه، بكلام لا علاقة له بمحل البحث، كأن يقال:إن المصرفية الإسلامية حقيقة واقعة، والاستدلال على نجاحها بتزايد حجم رأس المال، فهذه المقاييس لا قيمة لها البتة، إذا وقعت المصارف في انحرافات شرعية، ولن تنالها الشفاعة مهما كانت نسب توزيع الأرباح أو زيادة رأس مالها.

مقالات ذات علاقة:

1-ما لا بد منه في دراسة مسائل التمويل الإسلامي…دراسة العقد لا تكفي

2-الأجرة المتغيرة في الإجارة المنتهية بالتمليك…الاقتصاد الإسلامي … وتساؤلات في الثقافة!

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش (غفر الله له ولوالديه)

الجمعة المباركة

عمان المحروسة

10-2-2017

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top