حدث معي … أولويات التعليم الشرعي التجويد أم الفقه … وإن تعجب …

لا شك أن علوم الشريعة كلَّها مهمة، لانتظام حياة الإنسانية وسيرها على طريق هداية الأنبياء، الذين جاءوا لصلاح دنيا الناس وآخرتهم، ولكن علوم الشريعة متفاوتة في الأهمية، ولا أنسى ما كان ينبه عليه شيخي: الطالب أحمد الذي تعلمت على يده ألفية ابن مالك في النحو، أهمية العلوم الشرعية جميعها، إلا أن الفقه يعد أهم العلوم من حيث إنه تنظيم لسلوك المسلم.

أولا: تعليم التجويد مهم لكن ليس أهم من الفقه:

مَنْ مِــنّـا لا يحب أن يتقن تلاوة القرآن الكريم، على يد شيخ متقن لهذا الفن من علوم الشريعة؟! ومع ذلك كان الشيخ -رحمه الله تعالى- ينتقد إقبال الناس على تعلم أحكام التجويد، مع إهمالهم وتضييعهم تعلم الفقه الإسلامي على مستوى فرض العين، وما تستقيم به حياتهم الأسرية والمهنية، كنت أشعر بأن التفريط في تعلم فرض العين خطير، ولكن لم أكن أدرك أبعاد هذا التفريط في تعلم فرض العين، حتى زرته يوما فأدركت بنفسي، وحدث الآتي …

ثانيا: السؤال الصعب:

كان دخولنا على فضيلة الشيخ لا يحتاج استئذانا، ذلك لأنه جعل جزء بيته السفلي لطلاب العلم، ولا يطرقون الباب للدخول، بل يدخلون فورا لأن البيت السفلي هو قاعة درس مفتوحة لكل من يـمر بالمكان، ولا يحتاج موعدا مسبقا، دَلَفْتُ كالعادة إلى بيت الشيخ دون استئذان، فوجدت الشيخ -رحمه الله تعالى- قد أسْدَل عمامته على وجهه، مسندا ظهره على وسادة عالية، فما كان مني إلا أن تجنبت إيقاظه، وإذا بالشيخ ينتبه إلي ويرحب بي كعادته، حتى إذا تهيأ الشيخ لمجلس العلم، أخرجت ما في جَـعْبتي من تلك المسائل التي تُشْكِل عليَّ في الفقه والأصول واللغة، لكنني رأيت الشيخ مشغول الذهن، وإذا به يـُـثـِيـر مسألة فقهية قد أقضت مضجعه وحيـَّرت فكره، فقال: عُرِضَت علي مسألة على النحو الآتي:

جاءني رجل طالبا الفتيا في واقعة حصلت له، وهي أنه كان قد كتب كتابه على امرأة، وحدث خلاف بينه وبين أهلها، فما كان منه إلا أن طلق المرأة، وعلى ما هو معروف شرعا: كل طلاق قبل الدخول يقع بائنا وبلا عدة، فأجاب الشيخ الرجل: لم تَـعُد هذه المرأة زوجتك، وليس بينك وبينها شيء، فقال كيف أيها الشيخ، قال الشيخ هذا هو الشرع! قال كيف ولي منها الآن ثمانية أولاد، فقلت له ماذا؟!! لك منها ثمانية أولاد وليس بينكما زوجية! فقال الرجل هذا ما حدث فعلا!

ثالثا: أين المشكلة الحقيقية؟

قال الشيخ: مكثت مع الرجل وقتا طويلا أبحث في ذاكرته عن أي كلمة بين الرجل وولي المرأة أو المرأة البالغة عن أي لفظ يدل على عقد زواج جديد، غير الذي تم هدمه بالطلاق السابق، فقال لي: لم أجد. بل بحثت في بطون كتب الفقه جميعها على المذاهب المعتبرة لعلي أجد شيئا يستمسك به شرعا لإثبات الزوجية من أجل إثبات نسب أولئك الأولاد فلم أجد، وأنا أشعر أنني الآن في مُعَضِّلة؟ لأنني استقصيت حال الرجل، ولم أجد أي وسيلة تثبت زواجا بينه وبين امرأته، مما يعني أن نسب الأولاد من أبيهم باطل شرعا، وهم قد سُجلوا في دوائر الأحوال المدنية بموجب وثيقة عقد الزواج الـمُنْحَلّ الذي تم إنهاؤه بالطلاق قبل الدخول.

وقد كان من عادة الشيخ رحمه الله تعالى أنه يبحث في المسألة إن كانت نصية في المدارس الفقهية الأربع المعتمدة، وكان لا يجاوز إلى القياس والقواعد الفقهية إلا حيث لم يجد نصا فقهيا في المسألة، وإلا يمكن بعد ذلك أن يذهب إلى القياس على وطء الشبهة مثلا أو العذر بالجهل، مع تشوف الشارع إلى إثبات النسب، بشرط تحقق هذه القواعد على الواقعة دون تكلف أو تعسف، ولكنني لم أطلع إلى ما انتهى إليه الشيخ في هذه المسألة، ولكنها على كل حال تمثل إشكالية كبرى تدل على خطورة الجهل بالأحكام الشرعية ذات العلاقة بالأسرة.

رابعا: المشكلة ليست فردية بل جماعية:

تكـبُـر المشكلة أكثر إذا علمنا أن بطلان نسب الأبناء تترتب عليه حقوق شرعية مالية، يعني أنه لا نفقه لهم على أبيهم، ولا لأبيهم عليهم، ولا ميراث بينهم وبين أبيهم، وأنهم دخلاء على قومهم وليسوا منهم، لقد اقترف هذا الرجل والأقارب والأنسباء من حولهم خطيئة تجاه الأبناء والمجتمع، إذ لم يُـثِر أحد منهم إشكالا حول ما حدث من الطلاق وانتهاء الزوجية، ولم يقل أحد أنه لا بد من عقد جديد، تثبت به حِلِّــيَّة العلاقة بين الزوجين ونسب الأولاد، لا أحد يلوم ذلك الأب الجاهل وحده، بل اللوم على المجموع الذي فرط في تعلُّم فقه الأسرة والمجتمع وتعليمه، حتى ورَّطَنا جميعا في هذه المصيبة، التي يشكو من مثلها وأشباهها كل من يتصدَّر للإفتاء، هذا كله بسبب حالة الغياب والتغييب لفقه الحياة والمجتمع.

خامسا: وإن تعجب فعجب دعاؤهم:

كما سبق فإن الاستهانة بفقه الأسرة وما يؤدي إليه له نتائج وخيمة على استقرارها والحياة الكريمة لأفرادها، وبالرغم مما يحدث من مثل هذه المشكلات، إلا أننا لا نبذل مع الأسف أي محاولة للتصحيح في هذا المجال الحيوي من حياتنا، وما زال التعدّي على الشرع والمجتمع خارج حسابات الفساد، الذي يكاد يقتصر على الاعتداء على المال العام، دون إقامة الاعتبار الكافي لحماية البناء الشرعي للأسرة، ذلك أن هيمنة الثقافة الاقتصادية هي الطاغية في المجتمعات الإسلامية إلا من رحم الله تعالى، وهذا نموذج للاستهتار والهوس الاقتصادي الذي يبيع فيه الإنسان دينه بعرض من الدنيا، وتعجب أن هؤلاء القوم يتساءلون لماذا ندعو ولا يستجاب لنا؟! وإن تعجب أكثر فتعجب من أن القوم قد استبطأوا النصر من عند الله!!! ولكنهم لم ينظروا إلى حالهم مع ربهم، وكيف حالهم مع سنة نبيهم، وعلينا أن نعلم أن حالنا وواقعنا إما أن تصنعه طاعتنا لربنا، فهذا خير لنا في الدنيا والآخرة، والـخَيـِّرون في هذه الأمة كثيرون، وإما أن تصنعه معاصينا… ومن يزرع الشَّوك لا يحصُد العِنب!!

ملاحظة: هذه الرسالة للتنويه بأهمية الفقه وتعلمه، مع الاهتمام بالتجويد أيضا.

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

6-11-2015

عمّان المحروسة

2 thoughts on “حدث معي … أولويات التعليم الشرعي التجويد أم الفقه … وإن تعجب …

  1. نوفمبر 6, 2015 - غير معروف

    جزاك الله خير اقضت ام قضت

  2. نوفمبر 6, 2015 - د. وليد شاويش

    أقض صحيحة وشكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top