بين إضرابات المعلمين وتقاعدات النائبين

المُلَخَّص

مر المجتمع الأردني في الآونة الأخيرة بتجاذبات حادَّة بعد أن قرر النواب لأنفسهم تقاعدات مدى الحياة، مما أثار جدلا في المجتمع في أحقية المضربين في مطالبهم بأقل مما قرر النواب لأنفسهم، وطغت على نظرة الأطراف التحليلات الاقتصادية للميزانية والوضع الاقتصادي التي هي أعراض المشكلة، بينما تكمن المشكلة الحقيقية في الفكر والثقافة التي أنتجت تلك الأعراض المجتمعية والاقتصادية، وهي أن إضرابات الموظفين وتقاعدات النواب نتجت من ثقافة مشتركة بين الجميع، وهي اعتقاد أن قوة الضغط لها الحق في تقرير المكاسب، وهذه المشكلة الحقيقية هي التي أوقعت المجتمع في فخ التناقض، في ظل غيبة المرجعية الفقهية الإسلامية عن مجال الحياة العامة، واقتصارها في الغالب على مقولات نظرية وعبادات بدنية، مع أن الابتلاءات الحقيقية التي بينها الشرع كانت في مجال الحياة العام، وليس العبادات البدنية القاصر نفعها على صاحبها في غالب الأحيان، دون أن يسري هذا النفع للمجتمع، مع أن مقام المسلم عند الله تعالى هو بحسب مقامه في مصلحة المسلمين العامة، ونفعه للمجتمع والإحسان إليه، وقد ذكرت غيضا من فيض الأمثلة الشرعية على ذلك.

***

أولا: منطلقات ضرورية:

سبق وأن بذلت محاولة لنصب الميزان بين أطراف العلاقة في إضرابات المعلمين السابقة، الماثلة في حق المعلم في العيش الكريم، وحق الطالب في التعليم، وضرورة الدولة، وكان من الصعوبة بمكان معالجة الموضوع لأنك تقف على مفترق طرق فيه الحاجة والحق والضرورة، والاختيار بين الثلاثة أمر معضل حقا، والمواءمة بينها ليست مستحيلة، بل ممكنة بتفهم المعلم لحق الطالب في التعليم، وتقدير الوزارة لحاجة المعلم ما أمكن ذلك إلى الحق سبيلا.

وقد سبق التأكيد على أن الإضراب مسألة ثقافية بشكل اقتصادي، حيث يعتقد المضرب أن القوة هي سبيله لتقرير الحق والوصول إليه، بينما تقرر الشريعة أن الذي يقرر الحق هو رب العالمين، وقد نصَب سبحانه الأدلة في الكتاب والسنة مرشدة وهادية إلى ذلك الحق، والله تعالى يحكم بما يشاء، والله تعالى لا يقرر الحق بناء على توزيع القوة، بل بناء على العدل الذي حكم به منذ الأزل.

مع التأكيد على هذا الجوهر في فهم الحق وأنه من عند الله تعالى مصداقا لقوله تعالى: (وقل الحق من ربكم)، إلا أن صاحب الحق في التشريع في الرؤية الديمقراطية وهو مجلس النواب قرر لنفسه تقاعدات مدى الحياة، أمر كان له وقع الصاعقة على المجتمع، الذي يئن فريق منهم ليس بالقليل تحت وطأة خط الفقر، ولكن الاعتراضات بقيت في أعراض المرض نفسه وهو أن الميزانية والحالة الاقتصادية لا تكفي، مع إهمال المرض الثقافي نفسه الذي يؤدي إلى تلك الأعراض، سواء كانت إضرابات، أو تقاعدات للأثرياء وطبقة النفوذ، وهذا يجعل الفكر الديمقراطي على المحك وأنه يحابي الأقوياء الذين يستبدون بالرأي والمصلحة طلية فترة الدورة النيابية التي تمتد سنين، بينما يستبد الناخب بهم يوما واحدا، ربما يمدد يومين لإقبال الناخبين أو دافعي الضرائب، وتلك إذن قسمة ضِـيــــزَى.

ثانيا: إضراب الضعفاء وتقاعدات الأغنياء ثقافة واحدة:

إن تقاعدات النواب والإضرابات تخرج من ثقافة واحدة لا تقبلها الشريعة، وهي أن القوة هي التي تقرر الحق، ولكن مظاهر ثقافة القوة في اكتساب الحق كانت أبشع في حالة تقاعدات النواب، وأكثر وضوحا في شراستها، لأن من المفترض أنهم حماة للحق، ويمثلون قوة المراقبة على أداء الحكومة، فكيف يأتي الاستبداد بالثروة من قبل حماة الحق الذين ينبغي أن يقرروا ما هو خير لمن وراءهم من الناس، الذين أوصلوهم إلى تلك المقاعد، لحماية المصالح العامة للبلاد لا العمل للحساب الشخصي، وتأمين ما يسمى المستقبل للأغنياء من الضرائب التي يدفعها الفقراء.

ثالثا: ضرورة مرجعية الفقه:

إضرابات الضعفاء وتقاعدات الأغنياء، لا يختلف كل منهما عن الآخر في استناد كل منهما إلى ثقافة الاستبداد والقوة في الهيمنة وتقرير الحقوق حسب موازين القوى في المجتمع والعالم، فكلاهما ظلم متبادل وتشريع للنفس بما تريد، دون أي التفات إلى الجهة التي لها الحق في البتِّ في النزاعات بين الأفراد والمؤسسات المجتمعية بما فيها مؤسسة الدولة، وهي الجهة التي لا يختلف المسلمون في عقيدتهم فيها، وهي أن يرد الأمر عند النزاع لله ورسوله، والعلماء هم يحكمون وفق العدل الذي أمر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله: قال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الله والرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، فدور العلماء من فقهاء وساسة واقتصاد وخبرة لازمة، هو الكشف عن الحكم الذي هو عند الله ونصَب أدلة الكتاب والسنة الدالة عليه، ويمكن أن تحاكَم اجتهاداتهم وفق معايير شرعية موضوعية تبين إذا انحازوا إلى فئة على حساب أخرى.

رابعا: ثقافة الواقع عند المسلمين طاغية على الفقه الإسلامي:

إن الحديث آنف الذكر يبرز حالة من الصراع بين مكونات المجتمع تكون القوة فيه للأكثرية الغالبة والقادرة على الضغط، فإذا كان النواب أقوى ضغطا فهم قادرون على أن يردوا المطالب المشروعة للمعلمين والأطباء والممرضين، وغيرهم ولو كانت مهمة وقليلة نسبيا، نسبة إلى ما قرره النواب لأنفسهم من تقاعدات خيالية مدى الحياة، مع أن نفع النواب لا يقارَن بما يقدمه الطبيب والمعلم والممرض للمجتمع، والتحليل الاقتصادي لمطالب إضرابات الموظفين وتقاعدات النواب هو نظر إلى قمة جبل الجليد الغارق تحت الماء، وتعامل سطحي مع قضية فكرية تسربت إلى المسلمين، واستبعدت إسلامهم عن المجال العام للحياة، مع تَدَيُّن خاص قاصر على جوانب تعبدية بدنية، مع أن التعبد في مجال الحياة العامة مع الغير هو الابتلاء الحقيقي للإيمان.

خامسا: أمثلة على أن مراعاة الصالح العام هي سبب الفوز العظيم في الآخرة:

وأذكر من هذه الأمثلة الآتي: دخل رجل الجنة في كلب، وفي جذع شجرة أزاحه عن طريق المسلمين، ابتلى بني إسرائيل بتحريم الصيد يوم السبت، وابتلاهم بأن لا يخرجوا بني قومهم من ديارهم، وأن يحقنوا دماءهم، وأن يذبحوا بقرة، وأن لا يأكلوا الربا، وأن يؤمنوا بالأنبياء جميعا، هذه أمثلة قليلة من أمثلة كثيرة تبين للمسلم أن موقعه عند الله تعالى بحسب موقعه في المجتمع، ومن نفع المسلمين والإحسان إليهم، وحسبك دليلا على هذا لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي تقوم ليلها وتصوم نهارها، ولكنها تؤذي جيرانها، فقال: هي في النار، فإذا دخلت امرأة النار في هرة، فما بالك في مجتمع إسلامي تكاثرت عليه الرماح، من كل حدب وصوب، وأنت ترى المسلم الذي يتدين بصوم النوافل ثم يضحي بالمجتمع ومصالحه العامة، سواء كان ذلك المتدين فردا، أو مؤسسة اجتماعية لها مكانها في المسؤولية كالحكومة، أو مجلس النواب وغيرها من المؤسسات التي تقيم عمود المجتمع، لذا فإن مراعاة الصالح العام للمسلمين واجب على كل مسلم ومسلمة أيا كان موقعه وهذا أرقى معاني التدين في الإسلام.

وكتبه

د. وليد مصطفى شاويش

الأربعاء 17-9-2014م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top