بمناسبة تجاوز مشاهدات شرحي ألفية ابن مالك في النحو الستين ألف مشاهدة، لماذا ندْرُس المتون العلمية ونُــدَرِّسها

تمثِّل المتون مختصرات علمية تمت صياغتها بدقة عالية، لتشمل الفروع العلمية بأخصر عبارة، وقد كانت هذه المتون هي المناهج الدراسية المعتمدة حتى التاريخ الإسلامي القريب، قبل ظهور التعليم الحديث في المدارس والجامعات على النحو الذي نعيشه اليوم، وبمناسبة إقبال طلاب العلم على دراسة المتون العلمية، شعورا منهم بتفوق المتون العلمية في صناعة الشخصية العلمية المتكاملة في العلوم، رأيت أن أكتب هذه العجالة في ميزات المناهج العلمية التي اعتمدت عبر التاريخ الإسلامي :

  • تكامل العلوم:
  • يدرس الطالب خلال التعليم النظامي العام مواد مختلفة حتى يحصل على شهادة الثانوية العامة، ثم يفاجأ في في بدراسة الشريعة دون أن يدخل مراحل التعليم الشرعي حسب التدرج المعروف في تدريس المتون العلمية، ويدخل الجامعة وهي تعِج بالأفكار المختلفة، سواء كانت توجهات إسلامية أم غيرها، ونكون قد ألقينا أَفْلاذ أكبادنا في خِضم الأفكار المتضاربة، قبل أن نعلمهم كيف يعومون في هذا المحيط الخِضمّ، وكيف يتعاملون مع قوارب النجاة، في وسط البحر الهائج المائج، وتتفاقم المشكلة أكثر عندما يجد الطالب حالة من انفصام العلوم الشرعية عن بعضها، فطالب الشـريعة مثلا لا يأخذ حظه الضروري من اللغة، بينما طالب اللغة لا يأخذ حظه الضروري من نصوص الشريعة، مما أصاب العلوم الشـرعية واللغوية بالشلل، حيث انفصلت آلة الفهم وهي اللغة عن النص الشرعي، وأصبح الطالب في الشـريعة يطلع على نصوص الفقهاء دون آلة اللغة، وطالب اللغة يدرس العربية بثقافة النص الغربي بمناهجه الحالية، حيث تستأسِد هناك نظريات الغرب في اللغة، وهي تفصل النص عن التقديس وعن التدين، وتتعامل مع الأدب على وفق النظرة اللادينية في الأدب والفكر، وتم تطبيق تلك المناهج على النص الشرعي، مما أنشب الصـراع بين الدين والأدب، مع أنهما متكاملان لا متحاربان.

2- التدرج في التعليم:

عني علماء المسلمين بالتدرج في التعليم، فصنفوا الكتب الخاصة بالمبتدئين والمتوسطين والمنتهين، فكتُب المبتدئين تعرِض على الطالب رؤوس المسائل، بحيث يعرف الطالب المسائل التي يشتمل عليها علم الفقه ابتداء، ثم في المرحلة المتوسطة يدرس هذه المسائل في المتون التي تحوي تفاصيل المسألة الدقيقة، أما في مرحلة المنتهي فهو يدرس المسائل بأدلتها وعِلَلِها عند العلماء، ولا شك أن هذا الأسلوب من الدراسة مارسته الأمة وتعمَّقت فيه، وله مناهج وأسس، وليس مجرد كتاب يقرأ، فقد عُنيت الأمة بالمختصرا ت وشروحها والتعليق على الحواشي، وصياغة العلوم في منظومات يسهل حفظها، فألفوا المختصرات لتحفظ، وبسطوا شرحها في المطولات لِتُــفْهَم.

3-تعزيز مهارة النص عند المتعلم:

حيث يمكن تطوير قدرة المتعلم على التعامل مع النص: قراءة، وسماعا، ونحوا، وصرفا، ومسالك دلالة، وبلاغة، بحيث تقدم علوم اللغة بطريقة عملية تطبيقية، وتقدم جميع العلوم ذات العلاقة بالنص في بيئة النص الواحد، وتوظف علوم الآلة بطريقة تظهر ثمرتها للطالب في بيئة النص.

4-المتون العلمية نصوص مـُحَكَّمة:

فالمتون نصوص منتقاة وحصلت على شهادات عالية من العلماء المختصين، فهي نصوص محكَّمَة، وهي المعنى الكثير في اللفظ القليل، وتمثل بؤرة مركّزة من العلم يسهل على الطالب حفظها ومراجعتها، في وقت قصير، وقالوا: العرب تُوْجِز الكلام ليُحفَظ عنها، وتبسُطه لِـيـُفهَم عنها، فالمختصرات لتحفظ ولتجمع التفاصيل بلغة مختصرة، ثم تشرح في المطولات لتُفهم.

5-تعدُّد في الطَّرْح والشَّرْح:

تكثر الشروح وتتنوع على المتن الذي يُسمى صاحبه “المصنف”، فتظهر لدى المتعلم والقاريء زوايا متعددة للنص نفسه من قبل الشراح الذين يستدركون على المصنف، ويبينون قصور العبارة، وما قصد إليه بالإشارة، وما الذي لو حذفه كان أحسن، وما الذي لو ذكره كان أحسن، وهذا يفيد الطالب في إضافة تراكمات علمية حول المتن الأصلي، وتنمي مهارة عنده في نقد الصياغة بصورة عملية، ويستمر الطالب في حالة من البناء والتفريع حول النص.

6-تعدد الحواشي على الشروح:

وهذه الحواشي هي مزيد من التحرير والتفصيل على كلام الشارح والمصنف معا، وهذه الحواشي تأتي بعد مراسٍ طويل من الـمُحَشِّي مُذْ كان تلميذا أيام الطلب، إلى أن أصبح فارسا يافعا في ميادين العلم تحت عين شيخه، حتى أصبح عالما قادرا على النقد والتوجيه والتفصيل، وبيان وجوه المسائل بحيث يلفت انتباه القاريء والباحث إلى تفاصيل ضرورية تحت مُـجْمَلات تخفى على المطالِع، وهذه الحواشي والشـروح في حالة تحرير دائم، وهي تناقش مستجدات الفقهية، فهي تمثل حالة استقصاء لأبعاد المسائل الفقهية، وأحيانا يتبع هذه الحواشي تعليقات من بعض العلماء على المسائل التي يقررها الـمُحَشِّي.

7-المختصرات هي تقنين للفقه:

تمثل هذه المختصرات تعبيرا عن المعنى المقصود بأقصر عبارة، وهي تعلم الطالب كيف يصاغ العلم بدقة لغوية متقنة، والدقة المتناهية لكبار العلماء في التعبير عن المسائل بوضوح، ومع كثرة القراءة على الشيخ، تنطبع في ذهن المتعلم قوة الملاحظة، وحِدَّة الفهم لتلك الألفاظ والعبارات، وتحرير مسائل الاختلاف ونقاط الائتلاف، فيجمع الطالب بين مهارة الاختصار، وقوة الاستحضار.

8-استحضار المسائل:

عندما يقرأ الطالب كتابا مختصرا، ويكثر من القراءة والحفظ فيه، تصبح رؤوس المسائل حاضرة في ذهن الطالب، فيستطيع أن يؤلف عناصر المسألة الواحدة، والمسائل ذات العلاقة بهذه المسألة، لإدامته التركيز في عين المسألة أو المسائل من مصدر واحد، فهو كالذي يحفظ القرآن الكريم فتعينه صفحاته وترتيبها على الاستذكار، فيقول لك هذه الآية في الصفحة اليمنى، وتلك في أسفل الصفحة وهكذا، وذلك لأن الطالب يعيش مع الكتاب الأساس ساعات طويلة، وهذا يجعل الكتاب وثيقة حياتية مهمة في يد الطالب تبقى ذكرى جميلة مع الزمن، على خلاف المناهج المدرسية الحديثة، حيث تُشيَّع إلى مثواها الأخير بعد الامتحان.

9-تعليم مفتوح للجميع:

تمثل المدارس العلمية الـمَعْـنِـيَّة بالمتون جامعة مفتوحة، لا تشترط شهادات محددة، أو تخصصا معينا، أو سِّنا معينة، فهي بعيدة عن كل الشكليات، كما أن منهج تدريس المتون يقوم على أوصاف موضوعية علمية خاصة في المتعلم من حيث تحديد مستواه أولا: مبتدئا، متوسطا، منتهيا، وموضوع العلم الذي يختاره المتعلم، المهم أن يتقن العلم وأبوابه.

10-البعد عن الاعتبارات الاقتصادية:

يغلب على مدراس تعليم المتون العلمية أنها مدارس مفتوحة، لا تشترط دفع أي مبلغ مالي يمكن أن يـحُول بين طالب العلم والعلم، فالعِلْم في الإسلام بعيد كل البعد عن الهيمنة الاقتصادية، التي تقطع الطريق على الجادين والمخلصين في حماية الشـريعة وحراستها، لأن العلم الشرعي مِثل الصلاة يجب بذله لله تعالى، ولا يخضع للظروف الاقتصادية للمتعلم، لذلك نجد أن تاريخنا الإسلامي حافل بِـسِيـَر الأعلام الفقراء، الذين نهضوا علميا بهذه الأمة، وكانوا صناع العدالة والحياة فيها، بل كان بعضهم لا يملك قوت يومه، ولكنه كان في كفالة أوقاف المسلمين، أو كفالة الأغنياء، أو كفالة شيخه.

انقر هنا للاطلاع على صفحة شرح ألفية ابن مالك في النحو للدكتور وليد شاويش

 

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

30-10-2015

عمان المحروسة

1 thought on “بمناسبة تجاوز مشاهدات شرحي ألفية ابن مالك في النحو الستين ألف مشاهدة، لماذا ندْرُس المتون العلمية ونُــدَرِّسها

  1. نوفمبر 13, 2015 - أريج مصطفى

    رفع الله قدركم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top