المسح على الجوربين في مدارس فقه السلف … هل أمسح على الجوربين الرقيقين؟ الخطأ في الكلي ليس كالخطأ في الجزئي

تمهيد:

تحدثت سابقا عن الخلاف في التصوير الشمسي، والجدل الذي دار حوله على نطاق واسع، وبعد ظهور التصوير السِّلْفي تلاشت الأقوال المحرمة للتصوير وخَفَتَت أصواتها، فلا تكاد تسمعها إلا همسا، وقد بينت سابقا أن لفظ التصوير في الحديث الشريف لا ينطبق على التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) أو بالهاتف، وهو من قبيل المشترك اللفظي ليس إلا، ولا علاقة بين التصوير المحرَّم في الحديث الشريف، والتصوير بالهاتف أو بالكاميرا بتاتا، إنما هو مجرد تشابه في اللفظ والمعنى مختلف، وقد أدى هذا التشابه في اللفظ المشترك، سببا في تحريم التصوير الشمسي (الفوتوغرافي)، وبقي الجدل مستمرا، لم يُحسم إلا بعد ظهور التصوير وانتشاره على نطاق واسع بعد ظهور “السِّلْفي”.

أولا: أوسع المدارس الفقهية في المسح:

1-حديثي اليوم مختلف شيئا ما، وهو في حكم المسح على الجوربين، فقد ذهبت مدارس فقه السلف في مسألة المسح على الجوربين ما بين التحديد عند الإمام مالك فلم يجز المسح أصلا على الجوربين إلا إذا كانا مجلدين بشروط ليس هنا محل سردها، ومتوسط كالحنفية والشافعية، وبين موسع وهو مذهب الإمام أحمد، ولكنه اشترط أن يكون الجوربان مما يمكن متابعة المشي فيهما، ولعل هذا القول هو أوسع مدارس فقه السلف في الأمر، لأنها بمتابعة المشي عليها تشبه الخُف في ذلك.

2-وعلى هذا نستطيع أن نقول إن مدارس فقه السلف الأربع لاحظت أن مسح الخف رخصة، وبما أن الرخصة استثناء، فيجب الاقتصار فيه على ماورد في الشرع، فاستخرجوا الشروط من فعل السلف في المسح على الجوربين، لأن التوسع في الرخصة يعني إلغاء العزائم والأحكام الشرعية الأصلية، وسيصبح الاستثناء أصلا والأصل استثناء، لذلك لا تجيز مدارس فقه السلف المسح على الجوربين الرقيقين، وتوهم بعض طلاب العلم أن السلف لا دليل لهم على شروطهم تلك في المسح على الجوربين، ولكن في الحقيقة كان السلف أعلم بالشريعة وأحفظ لها، وعلى منهجهم لن تتحول نعمة الرخصة إلى تحلل من العزائم والأحكام الشرعية الأصلية.

ثانيا: الجوارب في الحديث مشترك لفظي كالتصوير سابقا:

أما يلبسه المسلمون اليوم مما يسمونه جوارب، فهذه لا ينطبق عليها لفظ الجورب في الروايات المثبتة للمسح على الجوربين، لنصوص السلف على أنها مما يشترط متابعة المشي فيه، أو عدم نفوذ الماء، أو غير ذلك من الشروط، وهذا لا ينطبق على ما يسميه الناس جوارب لعدم توافر الشروط، وأن تسمية الجوارب لما نلبسه اليوم هو مشترك لفظي كالعلاقة بين التصوير المحرّم في الحديث، والتصوير بالكاميرا أو بالهاتف اليوم، يعني ذلك أن تنزيل حكم الجوربين في الآثار الشرعية على ما يعرف بالجوارب اليوم، هو كتنزيل حكم التصوير المحرم في الحديث الشريف على تصوير الهاتف المسمى بـ “السِّلفي” وإن كان السلفي هو الذي جعل تحريم التصوير إلا همسا، فمن أين نأتي بجوارب “سلفي” حتى يقتنع أحدهم بأن الجوارب الرقيقة مشترك لفظي كتصوير السِّلْفي؟!

ثالثا: التيسير شرعا له أصول أما التحلل فلا:

1-لو أنني أتيتك بحوار في المستقبل يقول فيه الطلاب بعد قرن من الزمان، إن العلماء قد أجازوا المسح على الجوربين الخفيفين، وقيل لهم: لا، هذا خلاف ما عليه مدارس فقه السلف، الذين اشترطوا متابعة المشي عليهما، قالوا العبرة بالدليل، ولكن غاب عنهم أن الجورب مشترك لفظي، وقال شيخ أولئك الطلاب يجوز لنا أن نمسح على القدم وأن شرط، متابعة المشي لا أدلة عليه، بل إن من العلماء من أجاز المسح على الجورب مهما كان خفيفا جدا، وبما أن الخفيف جدا كالعدم، ولا دليل على التقييد بالخفيف، فيمكن عندئذ المسح على القدم مباشرة، فما فائدة تلك القماشة الرقيقة التي كالعدم؟!ثم يسترسل شيخ الطلاب بقوله: أليست الآية في القراءة ” وأرجلكم إلى الكعبين” بكسر أرجلكم أي وامسحوا بأرجلكم، أليس هذا يؤكد أن المسح على الرِّجل وارد في الكتاب والجورب الخفيف كما ورد عن بعض العلماء.

2-وأقول  عندئذ يصبح التحلل هو نفسه ما عند الشيعة تماما، وهو مسح القدمين، وكان سبب موافقة الشيعة في مذهبهم الفاسد هو مجافاة ما ورد عن أئمة السلف في وصف الجوربين من اشتراط متابعة المشي عليهما، وعدم مراعاة المشترك اللفظي كما هو الحال في التصوير، مما أدى إلى الترخص بلا مرخص، وخرجنا من مجال الرخصة الشرعية إلى التحلل، مما أدى إلى مسح باطل على جوربين خفيفين ومن ثم صلاة باطلة على مدارس فقه السلف الأربع المعتمدة في الفتوى.

رابعا: كثرة التحلل ستجعل التيسير الشرعي ضربا من التشدد المذموم في المجتمع:

عندما ذكرت مدارس فقه السلف الأربع الجامعة لفقه الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، وذكرت أوسع مذهب وأسهلها في أمر المسح حسب المدارس الفقهية المتبوعة والمعتمدة،  يلحظ بعض الإخوة أن مدارس فقه السلف أصبحت متشددة بالرغم من توسعها في المسح على الجوربين، بينما يرى الماسح على الجوربين الرقيقين أن الإخلال بشروط المسح على الجوربين أنه هو التيسير المشروع، بسبب المشترك اللفظي الذي بينته سابقا، ويعني ذلك أن التشدد والتساهل أصبحا يتبعان معيارا شخصيا متحركا في الواقع لا يثبت على حال، حيث أصبح أسهل مذهب وأوسعها في مدارس فقه السلف متشددا في شرطه، وأصبح الناس يرتعون في الشذوذ الفتيا، بدلا من الرخصة المشروعة، ثم نعاني من الشذوذ القديم أصلا متشددا، يبنى عليه شذوذ على شذوذ، ولا يحصل ذلك إلا بعد ضياع الأصل الثابت في مدارس فقه السلف الأكثر سهولة في فتواها المعتمدة في المسح على الجوربين.

خامسا: النسبية الشخصية في التحلل والتشدد أصبحت حَكَما على الشريعة:

ولكن لو نظر المسلم إلى أن العزيمة هي غسل القدمين، فإنه سينظر إلى المسح على الخف أنه رخصة ويسر، وكذلك الجوربين اللذين يمكن متابعة المشي عليهما، ولكن لو نظر إلى ما نسميه اليوم جوربين بسبب تشابه المشترك اللفظي، ونظر إلى المسح على الخف والجوربين بشروطهما، لوجد أن الخف أصبح عزيمة، والجوارب رخصة وهكذا دواليك، لا تنتهي دائرة الفتوى المتأثرة بالواقع، حتى لا يبقى غسل الرجلين ولا المسح على الخفين، وهذا كله عقوبة تتبع المتشابه وهو المشترك اللفظي وهجر المحكم.

سادسا: المشترك اللفظي من المتشابه ويجب ردّ المتشابه إلى المحكم:

يلاحظ بأن إباحة المسح على الجوربين في عُرفنا ولو خفيفين هو من باب المشترك اللفظي، ولا علاقة له بالآثار الواردة عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، وأن الماسح على الجوربين في عرفنا لم يأخذ بغسل القدمين وهو العزيمة، ولا بالمسح على الجوربين الذي هو رخصة، إنما تشابه عليه المشترك اللفظي كالتصوير الذي سبق بيانه، وقد انتهى التخفُّف غيرُ المسوَّغ إلى أن يمسح ولو على أي شيء من القماش مهما كان رقيقا، ولو أننا استمسكنا بالمحكم وهو الغسل للرجلين، والمسح على الخفين والجوربين بشروطهما ما وقعنا فيما وقعنا فيه بسبب المشترك اللفظي، وأن الخروج على مدارس السلف الفقهية، دون استقصاء وتتبع واجتهاد جماعي مكافيء لما عليه مدارس فقه السلف كان سببا في التحلل من الرخصة الشرعية المعتبرة إلى حالة من التحلل من الشريعة، وكان الأولى تقييم فتاوى التصوير التي وقعت في فخ المشترك اللفظي، حتى لا تقع مجددا في فخ المشترك اللفظي في الجوربين، ولا يلدغ مؤمن من جحر مرتين.

مقالات ذات علاقة:

1-هل اعتبر تحريم التصوير من العهد البائد… التدين بين صناعة الواقع وصناعة الأدلة الشرعية

2-الشذوذ المُركَّب في قياس غسل القدمين على مسح الرأس إذا نزع خفيه بعد المسح عليهما… ما هكذا تورد الإبل يا سعد

 

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

الجمعة المباركة

16-2-2017

2 thoughts on “المسح على الجوربين في مدارس فقه السلف … هل أمسح على الجوربين الرقيقين؟ الخطأ في الكلي ليس كالخطأ في الجزئي

  1. ديسمبر 28, 2018 - غير معروف

    أحسنت فضيلة دكتور وليد موضوع جدا مهم ويمس قطاع كبير من المصلين وتوجد أخطاء كبيرة في هذا الموضوع فتجلية فضيلتكم لهذا الموضوع له أثر كبير في تصحيح المفهوم المسح على الجوربين

  2. يناير 16, 2020 - حسام هنيه

    حفظك الله لنا ورعاك. من أجود ما قرأت في تفصيل المسح على الكوريين فلك كامل الشكر والتقدير دكتورنا الفاضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top