المذهب المالكي وفقه العمران في محاربة العصابة المنظمة  حد الحرابة على أفراد العصابة (العدوان على فتى الزرقاء نموذجا)

تمهيد: توصيف الجريمة محل الحكم:

قام أفراد عصابة معروفة بترويع المجتمع وجمع الإتاوات، باستدراج الفتى صالح إلى منطقة ينقطع فيها الغوث والدفاع عن النفس، ثم قاموا بقطع يديه انتقاما من أبيه لوجود عداوة سابقة مع والد الطفل صالح، وتم تصوير الجناية، وأشعرت هذه الجريمة المجتمع بوجود فئة تهدد أمن المجتمع، مما حدا بتحويل الجناية من محكمة الجنايات الكبرى إلى محكمة أمن الدولة، وصدَرت الأحكام بالإعدام شنقا على عدد منهم، وأحكام أخرى دون ذلك للباقين.

أولا: التمييز بين حد الحرابة والقصاص:

وصف بعض الناس العقوبة بأنها قصاص شرعا، ولكنها ليست بالقصاص، لعدم تلف نفس المجني عليه، ولعدم الحكم بقطع يدي الجناة، وعلى فرض أن العقوبة  للحرابة فإنهم لم يقطعوا الطريق، ولم يقتلوا ولم يسرقوا، فكيف يمكن أن ينطبق عليهم حد الحرابة في هذه الحالة؟!  مما يستدعي توصيف حد الحرابة في المذهب، ثم بعد ذلك تحقيق مناط حد الحرابة على الواقعة محل البحث، في ضوء مذهب الإمام مالك في حفظ العمران وحماية الإنسان، ومقاصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد على مستوى المجتمع.

ثانيا: تعريف حد الحرابة عند المالكية وتحليله:

1-التعريف:

جاء في مختصر ابن عرفة: (الحرابة: الخروج لإخافة سبيل لأخذ مال محترم بمكابرة قتله، أو خوفه، أو إذهاب عقل، أو قتل خفية، أو لمجرد قطع السبيل لا لإمرة ولا عداوة).

2-تحليل التعريف في ضوء الواقع:  

إن إخافة المجتمع بتشيكل عصابات الإتاوات التي تخيف الناس، وعلى نحو لا يستطيع الناس التظلُّم لدى القضاء خشيةً من تلك العصابات، لاسيما أن الشرطة عاجزة عن إقامة البينات نظرا لخوف الشهود، أو الضحية، أو خفاء الجريمة، مما  يعني أن الشرطة والقضاء بالرغم من فائض القوة لديهما غير قادرين على التنفيذ والردع، وبما أن ترويع الناس لأخذ مالهم على نحو ينقطع معه الغَوث فإن فعل العصابة  يمثل جناية حرابة كاملة الأركان في المذهب المالكي، ولو لم يقتل رجال العصابة أو يجرحوا أو يأخذوا مالا فعلا.

ثالثا: أمثلة على ما يُعد حرابة وإن لم يقتل المحارب المجني عليه:

1-من سقى رجلا مسكرا ثم أخذ ماله.

2-من استدرج رجلا إلى مكان ينقطع معه الغوث ثم أخذ ماله.

3-من استدرج صبيا وأخذ ماله.

4-قصد قطع الطريق ومنع الناس من السلوك فيها والانتفاع بها ولو لم يكن لأخذ المال.

رابعا: ما ليس بالحرابة:

1-البغاة وهم من خرج على الحاكم لنقمة من ظلامة فهؤلاء يناظرون فقهيا وسياسيا وليسوا محاربين

2-مَن قطع الطريق لإمارة وبسط السيطرة السياسية، أو لعداوة بين الناس، أو الصراعات السياسية، فهذا لا يعد حرابة، أما إذا قصد القطع نفسه، فهو كما ورد في (ثانيا-2) من الفقرة السابقة. 

3-من قطع الطريق بسبب العداوات والثارات بين الناس.

خامسا:تخيير الحاكم في المحاربين:

1-حالة التخيير:

أ-ذهب الإمام مالك إلى أن الإمام مخير فيمن لم يقتل من المحاربين بين ثلاث عقوبات (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) المائدة.

ب-ويندب للحاكم إن لم يجني المحارب جناية القتل، أن يقتل المحارب إن كان من العقول المدبرة، وإن كان جسورا شجاعا أن يقطعه من خلاف، وإن كانت جناية المحارب فلتة ولم يعرف بالجريمة فينفيه أو يحبسه حتى تظهر عليه علامات التوبة ولو طال حبسه.

2-حالة عدم التخيير:

 أما إذا قتل المحارب وبعد القدرة فإن الإمام لا يكون بالخيار بل يتعين عليه الصلب مع القتل، ولو كان المقتول ذميا أو معاهدا، وهي عقوبتان في  واحدة، والصلب صفة في القتل، وصلبه أي ربطه على عمود دون قتله أو قطعه فليس عقوبة، ولا يقبل عفو الإمام ولا ولي الدم في الحرابة،  لأن الحرابة حد وليست قصاصا، أما إذا قتل المحارب ثم جاء تائبا قبل القدرة عليه فالقصاص لا حدُّ الحرابة.

سادسا: حد العصابة المنظمة لفرض الإتاوات حد حرابة:

وتكلمت هنا أنها حرابة، للإخافة من أجل طلب المال، وليس شرطا أن يكون المحاربون عصابة بل يمكن أن يكون شخصا واحدا لتتوافر في الجناية أركان الحرابة، وهي الإخافة من أجل المال مع انقطاع الغوث، ومثل ذلك سيطرة المجرمين على المناطق النائية أو الزُّقاق والمناطق الضيقة ويبتزون الناس لخروج تلك المناطق من سيطرة الدولة، ولو كان الذي خرج عن السيطرة مدينة فهذا يعتبر حرابة.

سابعا: تطبيق حد الحرابة على عصابة الزرقاء:

وبناء على ذلك فإن العصابة التي قطعت يدي فتى الزرقاء، هي عصابة فرض إتاوات وعلى نحو ينقطع معه الغوث من قبل الناس، بسبب تهديد العصابات للناس وعجز الشرطة والقضاء عن إقامة البينات، حيث يحبس المحاربون من أفراد العصابات إداريا ثم يفرج عنهم لعدم كفاية الأدلة، ثم ينفردون بالمواطنين والبطش بهم، وعندها يعزِف المواطنون عن الشكوى للشرطة والقضاء، لأن الشكوى تضاعف عليهم العذاب مرتين من قبل العصابات، مع عجز الدولة، وهذا هو عين انقطاع الغوث.

ثامنا: تطبيق الإعدام شنقا في حد الحرابة:

 وعليه، فإن للحاكم أن يطبق عليهم القتل مع الصلب، فإن فات الصلب بسبب الإعدام شنقا فهو فوات صفة في العقوبة، لا العقوبة نفسها، وهذا يعني أنه تحقق القصد الأصلي مع فوات الوصف التبعي، ويفوت القصد الأصلي من حد الحرابة بعفو الحاكم، أو ولي المجني عليه، وهذا كله يفيت المقصد الأصلي من حد الحرابة، لأنه بالعفو يفوت الحد نفسه، خلافا لفوات الصلب فهو فوات في الصفة لا في ذات الحد، ويجب التحذير من تخفيف الحكم على المحاربين إلى غير الإعدام، لأن ذلك يفيت القصد الأصلي للشريعة، وتبعا لذلك يفوت القصد التبعي.

تاسعا: التواطؤ على القتل في الحرابة:

على فرض حصول جريمة القتل من قبل المحارب، فإن كل مَن أعان بوجه من الوجوه ولو لم يباشر القتل، فإنه يُطبق عليه حد الحرابة وهوالصلب مع القتل، ولا تنفعه التوبة ولو قبل القدرة عليه، جاء في الخرشي على خليل: (ولا يشترط مباشرته للقتل، بل ولو شاركه فيه بإعانة كضرب، أو إمساك، بل ولو لم يعن بما ذكر بل بممالأة بحيث لو استعين به لأعان، ولا تعتبر توبته، ولو قبل القدرة عليه، ولا تقبل؛ لأن توبته لا تسقط حقوق الآدميين بخلاف حقوق الله تعالى، فتسقط بالتوبة) شرح مختصر خليل للخرشي (8/ 106)

عاشرا: دليل التواطؤ على القتل كالمباشرة :

كثرت الأدلة الشرعية  في أن التواطؤ بين أكثر من شخص على قتل واحد أنهم جميعا في الحكم كالمباشر قال تعالى : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) الشمس، فإن الله تعالى قال: (فَسَوَّاهَا) سوى العقوبة على الجميع مع أن الذي انبعث لقتل الناقة واحد، ومع أن المباشر واحد ولكن الله تعالى سَوَّى المباشر لقتل الناقة بغيره، لأن من لم يباشر أعان على قتلها ولو بالتحريض، أو الإمداد بالوسائل.

حاديَ عشر:أفراد العصابة كفلاء لبعضهم في الأموال:

إن الشق المالي له تفاصيله فيما يتعلق بمال فارضي الإتاوات حيث تعتبر العصابة التي تقوى أفرادها ببعضهم كفلاء جميعا بالمال المأخوذ ولا يعيد كل واحد ما أخذه بالفعل، بل يستوفي الحاكم منهم المال جميعا بوضفهم شخصا واحدا، وتباع أموالهم جميعا في تسديد أموال المظلومين، وهذه مباديء وهناك تفاصيل دقيقة يعلمها قضاة الشرع، وهو أنهم يتعبون في الأموال كالسارق.

ثانيَ عشر: طريقة إثبات الحرابة:

بما أن الحرابة تكون مع انقطاع الغوث فإنها تثبت بشهادة عدلين عند الحاكم أن هذا المحارب فلان بن فلان ويشهدان على الشهرة وإن لم يعاينا جناية الحرابة، ذلك لأن الحرابة خفية فهي مع انقطاع الغوث يتعذر معها الشهادة على المعاينة للجريمة، فأغنت الشهرة بشهادة عدلين على أن هذا الشخص المعين فلان بن فلان مشتهر بالمحاربة قال في الشرح الكبير على خليل: (ولو) (شهد اثنان) عدلان عند الحاكم على رجل اشتهر بالحرابة (أنه) أي هذا الشخص هو (المشتهر بها) أي بالحرابة عند الناس (ثبتت) الحرابة بشهادتهما (وإن لم يعايناها) منه فللإمام قتله بشهادتهم).

ثالثَ عشر: ما لا بد منه:

1-تطبيق حد الحرابة للدولة والقضاء وليس للأفراد.

2-بما أن الحرابة ينقطع فيها الغوث فلا يتصور فيها معاينة الشهود للجريمة.

3-اكتفى المذهب المالكي بشهادة العدلين على اشتهار المحارب بجناية الحرابة لإقامة لتعذر المعاينة.

4-للمتهم بالمحاربة أن يقدم بينات النفي والقاضي يرجح بين البينات

5-العصابات تصنع لها تحالفات مع بعض رجال الدولة والمجتمع لتسهيل مهتمها.

6-وصف العصابات التي تفرض الإتاوات على المواطنين بأنه محاربة نزع لأي صفة شرعية عنها قد تتستر وراءها العصابات.

7-لا يجوز تبرير الحرابة بسبب البيئة أو الفقر.

8-وصف العدالة مهم في الشهود وإسقاط اعتبار العدالة إسقاط لقيمة شهادة الشهود التي تمثل قيمة كبرى من الناحية الشرعية.

9-التشدد في البينات في مواجهة المحاربين حول فائض القوة لدى الدولة إلى عدم، وحالة من العجز، أدت إلى تغول المحاربين على المجتمع.

10-إن شعور المجتمع بعجز الدولة عن ردع العصابات بسبب التشدد القضائي في حقوق المتهم، والبينات التي تثبت بها الحرابة يؤدي إلى فقدان الثقة بالدولة.

11-إن فقدان الثقة بالدولة يؤدي بالمواطنين إلى التعامل مع المحاربين بصفتهم أمرا واقعا لا يمكن دفعه، ونصبح أما سلطة للمحاربين على السكان.

12-إن عصابات الإتاوات تمثل سلطة خفية تهدد أمن الجميع وأي إسناد لها بأي صورة من الصور هو تواطؤ على الإثم والعدوان على الدين والمجتمع.

13-التحذير من محاولات إضعاف المجتمعات الإسلامية من قبل المتسترين بحقوق الإنسان، وهي في الحقيقة تقوية المجرمين، ونسيان حقوق الضحايا وحق الشرع للفتك بالمجتمع وتفكيك الأسرة.

14-وجوب التمييز بين حد الحرابة والقصاص والخوارج والبغاة فكل فئة مختلفة في حقيتها وحكمها.

15-الحفاظ على أمن الدولة لا ينفك عن الحفاظ على أمن المجتمع، وتهديد أي منهما هو تهديد للجميع.

16-أمن الدولة والمجتمع فوق المناكفات السياسية والولاء والمعارضة وفوق الحزب والجماعة والأقليم، ولا بد أن يقدم الفقه تحليلا علميا للواقع القانوني ولو لم يكن ذلك الواقع مستمدا من الشريعة، لوجوب بيان الشريعة.

17-حيث خفيت الجريمة وعمت المجتمع تخففت الشريعة من شرط المعاينة في الشهادة، واكتفت بالشهادة على الشهرة، وتشددت في العقوبة وصارت حدِّية.

18-إن الشريعة كفيلة بأمن المجتمع وتحقيق مقاصدها من خلال طرق إثبات الجريمة على أساس عدالة الشهود.

19-إن القوانين الوضعية المعزولة عن الآخرة والعبادات غير قادرة أصلا على وضع معايير للعدالة لأن العدالة قائمة على صلاح الدين والدنيا.

20-إن بِنية القوانين الوضعية التي عزلت نفسها عن الآخرة، غير قادرة  على تطبيق العدالة، بسبب إضعاف بَـيِّـنة الشهود بعدم اشتراط العدالة.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

  5 -شعبان  -1442

   19-3  -2021

3 thoughts on “المذهب المالكي وفقه العمران في محاربة العصابة المنظمة  حد الحرابة على أفراد العصابة (العدوان على فتى الزرقاء نموذجا)

  1. مارس 19, 2021 - غير معروف

    رائع دوما رحم الله الإمام مالك ومن سلك بالمالكية وفهم السلف الصالح

  2. مارس 20, 2021 - غير معروف

    جزاك الله خيرا على هذا التفصيل الدقيق الواضح البين
    كذلك يصح أن نطلق عليه مسمى《 الحرابة من الالف الى الياء》

  3. مارس 21, 2021 - غير معروف

    بارك الله فيكم
    وجزيل الشكر للشرح المفصل
    رائعون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top