المدى الزمني لحقوق الإنسان بين الإسلام والفكر الأوروبي اللاديني

انتشرت المواثيق الأروبية لحقوق الإنسان في وقتنا هذا في عالمنا الإسلامي، مدعومة بقوة مهيمنة في مجال التقنية، والإعلام، والسياسة مكنت لهذا النموذج من التفكير الأروبي اللاديني، من الهمينة على أمة لها رصيد روحي وفقهي وافر، لكنه افتقد قوة التأثير بسبب ضعف أهله سياسيا، واقتصاديا، وصناعيا، وكتبت الهيمنة لثقافة الغالب بالرغم من ممارسته صنوفا من القهر على المغلوب في مرحلة الاستعمار الأروبي الدموي، لم يكن غريبا أن يتأثر المغلوب بثقافة الغالب، لو أن الغالب أحسن إلى المغلوب، ولكن الغريب أن الغالب هو امتهن إنسانية المغلوب، مع حديث بكميات تجارية عن حقوق الإنسان، وبالرغم من ذلك ظهرت أصوات هنا وهناك تنادي بالنموذج الأروبي اللاديني لحقوق الإنسان الذي يتعاطى هرمونات القوة، مع غفلة عن النموذج الإسلامي الذي يقاسي الغربة بسبب التصفيق الحار لذلك الفائز المتعاطي، في منافسة غير عادلة لا تكون فيها القوة للحجة بالحجة، بعيدا عن المنشطات السياسية والاقتصادية، وفي سبيل ذلك سوَّدت هذه السطور القليلة في جانب المفاصل في المدى الزمني لحقوق الإنسان في كلا النموذجين.
أولا: البداية في النموذج الأوروبي اللاديني:
تكاد تقتصر حقوق الإنسان في أفضل أحوالها على حق الإنسان منذ الحمل سِفاحا أو نكاحا مرورا بولادته ثم حياته في الدنيا إلى حين مماته، أما من حيث زمن مواثيق حقوق الإنسان في النموذج الأوروبي فهي في بداياتها ولدت مع الثورة الفرنسية، وأن هذه المواثيق من حيث أطرافها لا تتجاوز الإنسان والإنسان نفسه، فهي ضيقة في وقتها وأطرافها، وهذا المدى الزمني كله في أحسن أحواله ليس إلا محطة صغيرة في الخط الزمني لحقوق الإنسان في الإسلام الذي ابتدأ مع إعلان الاستخلاف في الملأ الأعلى، مرورا بالحياة الدنيا إلى مستقر الإنسان في الجنة أو النار.
نعم تكلم النموذج الأوروبي عن حق الإنسان منذ منشئه في عالم الرحم، لكن ليس في الرحم الطاهر النقي، الذي يتخلق في الإنسان بموجب الميثاق الغليظ في الإسلام وهو عقد الزواج، بل يجيز ذلك النموذج الذي حرص على ملء الدنيا بالمواثيق أن تكون نشأة الإنسان نفسه بلا ميثاق بين الأب والأم، في نظام يقدس النزوة المؤقتة على أنها حرية الإنسان، وأصبح الرحم المفترض طهارته وخصوصيته في منشأ الإنسان مرتعا لعابري السبيل من الرجال المنحرفين باسم الحرية الشخصية واحترام الخصوصية وحقوق الإنسان وفق النموذج الأوروبي اللاديني، ثم بعد ذلك يولد الإنسان على فراش لا يعلم صاحبه إلا بالحدس والتخمين، على حالة تشوش على تلك المكانة الرفيعة التي وضع الله تعالى فيها الإنسان في إعلان الخلافة في الملأ الأعلى ثم ارتد إلى أسفل السافلين.
ثانيا: بداية المدى الزمني في النموذج الإسلامي
:
إعلان التشريف الإلهي عن المخلوق الجديد:
قبل أن يخلق آدم أصل البشر، وهناك حيث الملائكة العظام في الملأ الأعلى، وإذا بإعلان إلهي عظيم عن مخلوق لم يحدد تحديدا واضحا تنويها بعظمته، وتشريفا لمكانته، وتشويقا لمعرفته، وذلك أن الله تعالى سيجعل في الأرض خليفة، فاستشرفت نفوس الملائكة لذلك المنصب الرفيع، الذي رأوه خيرا من منصبهم، وقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، حيث أقروا بأن الأهلية لهذا المنصب هي لمن يسبح ويقدس وينتهي عن الفساد، لذلك هم الأجدر بهذه الخلافة.
هنا شاءت القدرة الحكيمة أن تهييء المخلوق المكرم للخلافة إظهارا للحكمة الإلهية وهي أن الله علم آدم عليه السلام الأسماء كلها، حيث استيقظ أبونا آدم وإذا به جالس على كرسي العلم، بعد أن كان مُنْجَدِلا في طينته، لم يكن شيئا مذكورا، وبعد تهيئة آدم بالعلم لدور الريادة والخلافة، امتحن الله الملائكة في أسماء الأشياء فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، وبعد أن أخبرهم آدم بما علَّمه الله تعالى، ظهرت أَحَقِّية آدم وذريته لمنصب الخلافة، وكان تكريم الأصل وهو آدم، هو تكريم للفصل وهم ذريته، فظهرت مكانة آدم وذريته في الاصطفاء، وزاده الله تعالى وذريته بعد التوسيم والتعليم، بالتكريم بأن أسجد الله له الملائكة، ثم بالتنعيم في الجنة.
نَعَم كـنَّا هناك:
قبل مرحلة حياة الإنسان في عالم الأرحام التي هي بداية الحقوق في الفكر اللاديني الأوروبي، كانت هناك حياة عظيمة للإنسان في عالم الأرواح في حضرة الألوهية الحكيمة، وهنالك في ذلك العالم مَسَح الله تعالى على ظهر أبينا آدم، فخرجت كل نَسَمة هو خالقها إلى يوم القيامة، وعقد معهم الميثاق الأول، بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)، وهذا الميثاق بين كل نفس مع الله، في إثبات الحق الأول لله تعالى خالق الإنسان بالإيمان به وحده لا شريك له، وهو السبب الأول لانتظام عيش الإنسان ومعرفته، وهو أمر عظيم تجحده الدنيوية المتوحشة، التي تغولت على هذه المعاني العظيمة وجردت الإنسان من هذا السمو البشري بحضرة الملأ الأعلى من الملائكة من التوسيم بالخلافة، ثم التعليم للأسماء كلها، ثم التكريم بإسجاد الملائكة، ثم التنعيم في الجنة، وفوق كل ذلك أن يرقى هذا الخلق من الطين إلى مرتقى صعب وهو إبرام العهد والميثاق مع الخالق-سبحانه، والخالق غني عنه.
ثانيا: تأتي النهايات على منوال البدايات:
(ثم رددناه أسفل سافلين):
ليس غريبا أن يتدحرج الإنسان في الثقافة اللادينية الأوروبية على قفاه من تلك المكانة العليا حيث: التوسيم بالإعلان الأول للمكرمة الإلهية بمنصب الخلافة التي استشرفت لها نفوس الملائكة، ثم التعليم، فالتكريم، فالتنعيم، فالعهد والميثاق الوارد في الآية سالفة الذكر، لكن الأغرب أن يتكبَّر هذا المخلوق هذه المكانة الرفيعة، ويسقط إلى أسفل السافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم ينجرف وراء الشهوة المحرمة لتصبح سَفالته -في نظره القاصر للحقوق- حقا أصيلا لا يقبل النقاش، بينما يصبح حق الله نسيا منسيا، وليس هذا غريبا على بيئة لم تعرف رسالة الإسلام، بل الغريب أن من الذين بين أيديهم الكتاب والعهد مع الله تخلَّوا عن حقائق الكتاب، وتابعوا هؤلاء في جهلهم بربهم، وكان من المفترض أن الذين عَلِموا الكتاب وأُنزل بلغتهم أن يكونوا صماما لأمان الإنسانية من هذه الرِّدة إلى أسفل السافلين، ولكن غرهم تعاطي ذلك النموذج الأوروبي لمنشطات الهيمنة السياسية والاقتصادية والتقنية، وتحولوا –مع الأسف- من أئمة في الهداية إلى تابعين في الغواية.
النهاية في الدنيا:
تحدثت عن البداية المنحرفة عن منهج السماء في تقرير الحقوق، وكيف تخلق الإنسان في الرحم الذي أصبح أحد الميادين والحدائق العامة تحت عنوان “الحرية الشخصية”، وهذا –في حقوق الإنسان- شكل من أشكال خصوصية الإنسان يجب احترامه وتقديره، أما النهاية بالموت، فعندئذ من حق الإنسان أو عائلته أن يقوموا بحرقه أو إتلافه أو دفنه بالطريقة التي يرونها مناسبة، وذلك في نهاية مؤسفة لتلك الحقوق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: كسر عظم الميت كَكَسره حيا، بينما أفاض فقهاء المسلمين، في احترام خصوصية الميت حتى في أمر عورته ووجوب سترها، وعدم جواز استخدام الماء البارد أو الساخن جدا لأنه يؤذي الميت، والصلاة له والدعاء له، وذلك لأن البداية في الإسلام كانت مشرقة بالتوسيم بالخلافة والتكريم، والعهد والميثاق على الإيمان، فكانت نهاية الدنيا مشرقة، أما الآخرة فهي أعظم إشراقا.
ثالثا: خلاصة مفاصل المدى الزمني بين النموذجين:
من الواضح ضيق أفق المجال الزمني لحقوق الإنسان من حيث البداية الضاربة في أعماق الدهر. وبين ما يزعم أنه أول المواثيق في حقوق الإنسان، وأن الميثاق في الإسلام ميثاق عظيم بين الله وعباده، وأشهد عليه الملأ الأعلى من الملائكة، وبين تلك المواثيق التي تقتصر على طرف واحد في العلاقة هو جنس الإنسان، وضيق المدى الزمني في حقوق الإنسان من الولادة سفاحا أو نكاحا إلى الموت ثم الإتلاف، وهي طريقة معاصرة لقول المشركين الأوائل الذين قصروا حياتهم على الدنيا والموت، (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا). وفي هذا المقام أضع بين يدي المسلمين نصا لابن القيم المتوفى سنة 751 ه في المجال الزمني فيقول:
الْبَاب السَّابِع عشر:فِي أطوار ابْن آدم من وَقت كَونه نُطْفَة إِلَى استقراره فِي الْجنَّة أَو النَّار:
قَالَ الله تَعَالَى {وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الْعِظَام لَحْمًا ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ ثمَّ إِنَّكُم بعد ذَلِك لميتون ثمَّ إِنَّكُم يَوْم الْقِيَامَة تبعثون} فاستوعب سُبْحَانَهُ ذكر أَحْوَال ابْن آدم قبل كَونه نُطْفَة بل تُرَابا وَمَاء إِلَى حِين بَعثه يَوْم الْقِيَامَة.ا.ه، وأرجو أن يلاحظ القاريء كييف نقل القرآن الكريم الإنسان المؤمن تلك النقلة النوعية في المعرفة وجعله بالرغم من قدمه تاريخيا إلى تقدمه على العصور التالية له في رقي الإيمان وشمولية النظر والتفكير، على العرف السائد في الفكر الدنيوي لحقوق الإنسان في مجاله الزمني الضيق.
رابعا: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير:
ختاما أقول لكل مؤمن ومؤمنة إن ميثاقنا مع الله تعالى في عالم الغيب وما فيه من الحقوق والواجبات، هو الأولى بأن يعلن ويستمسك به، ولا يكون اليهود أكثر تمسكا بكتابهم الباطل من كتابنا الحق حيث قال الله فيهم : وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم) فكيف يترك المسلم الحق الذي بين يديه وكتابه، ويؤمن بالباطل الذي بين يدي الآخرين، بينما آثر اليهود كتابهم المحرف على القرآن، غفل المسلمون عن الحق الذي بين أيدهم، واتبعوا الباطل الذي بين أيدي غيرهم، وأنا أعلم أن كثيرا من المسلمين لا يفعل ذلك إعراضا منه عن الإسلام بقدر ما هو تعامل مع ثقافة سائدة وغالبة، وليس تفضيلا منه للظلام على النور الذي أنزله الله تعالى على خاتم المرسلين، ولكنهم مع ذلك في شوق إلى التديُّن المعرفي الذي يكشف عن المخزون العلمي للإسلام في هذا المجال، وقد سطرت في هذه الكلمات القليلة شيئا من التدين الإسلامي المعرفي في مجال حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام.

وكتبه الفقير إلى عفو ربه
د. وليد مصطفى شاويش
عمّان المحروسة
صبيحة الأربعاء 7-1-2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top