أصول مسألة حظر صلاة الجمعة والجماعات في المساجد وتعطيل الدوائر والمؤسسات بسبب فيروس كورونا 

تمهيد: الأسئلة والإجراءات:

إن جودة البحث تكمن في أهمية أسئلته وترتيبها ترتيبا منهجيا، بل إن في طرح الأسئلة قوة أكثر من الإجابة نفسها، لاسيما أنك ترى المتصدرين يتحدثون بانطباعات شخصية، دون تقعيد المسائل وتأصيلها، مما يعني أن توجيه الأسئلة في هذه الحالة يكشف واقع حالهم، لأنه كان يجب أن يجيبوا على السؤال الكبير الذي ينطوي على الأسئلة التفصيلية، بينما الأجوبة التفصيلية  تكون الجواب النهائي في الموضوع، وهذا ما لا تراه في الأحاديث الانطباعية النفسية.

أولا: مجال الفقيه:

يتلخص السؤال في: ما مجال الفقيه وحدوده في تكوين قرار الولاية العامة؟ وما المفردات البحثية التي بين يدي الفقيه هو الحكم الشرعي؟ وتفصيل مفردات البحث على النحو الآتي:

1-الأمر بالجمعة والجماعات والنهي عن ورود مواطن الوباء، ومبحث تعارض الأمر والنهي، في لا عدوى ولا طيرة، «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»، والنصوص الآمرة بالجمعة والجماعات، فيعمل بالجميع إن أمكن، وإلا سلكنا مسلك الترجيح، ويقدم النهي على الأمر، لأن النهي درء لمفسدة، والأمر جلب لمصلحة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

2-هل البحث في سد الذريعة لمفسدة متوقعة غالبا، أم لمفسدة متحققة فعلا، فيتقدم درء المفسدة على الأمر، وإن كان من سد الذريعة فلا يجوز تقديمها على الأمر لأنها محتملة، ولا ترد الواجبات بالاحتمالات، وهل المعتبر الحدود الجغرافية السياسية في تحقق المفسدة وتوقعها، أم المعتبر هو الظرف العالمي  لأن الحدود هنا أوصاف طردية غير مؤثرة في الحكم بسبب تطور وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، وعليه فالمفسدة متحققة وعامة.

3-على فرض حظر الجمعة والجماعات، فهل هو إسقاط للحكم الأصلي (فرض الجمعة) ، وهل الحظر رخصة، أم هو عزيمة واجبة، وعلى فرض الرخصة فإن المرء مخير، وفي حالة العزيمة فإن من ترك الأمر يكون قد ترك واجبا، وعلى كلا الحالين فإن حكم ترك الجمعة رافع للإثم للضرورة،  لا  مسقط للواجب الشرعي الذي هو الحكم الأصلي(فرض الجمعة) ، لأن إرتكاب المفسدة لا يكون من باب إسقاط الحكم الأصلي، بل من باب رفع الإثم في الاقتحام، فيسقط عندئذ الإثم بترك الجمعة والجماعة مع بقاء الحكم الأصلي وهو وجوب الجمعة قائما.

4- وعليه فنحن لسنا أمام إسقاط الجمعة، بل أمام تركها بلا إثم مع بقاء الحكم، لقوله تعالى (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) فالشارع رفع الإثم مع بقاء الحكم الأصلي في التحريم دون تغيير، وإذا تقرر وجوب ترك الجمعة فيكون عندئذ لا مندوحة لأحد في اقتحامه، مع قدسية فريضة الجمعة وهي باقية، والترك رافع للإثمـ لا للحكم الأصلي وهو فرضية الجمعة.

5-على فرض ترك الجمعة وهي الغاية من وجوب السعي، فالسعي وسيلة إليها، فإذا سقط السعي إليها، فما حكم البيع وقت النداء ووقت الخطبة، فهل يحرم البيع بناء على بقاء الحكم الأصلي في وجوب إقامة الجمعة، وأن الضرورة تقدر بقدرها فيبقى البيع على التحريم للقدرة على الترك، أم يسقط تحريم البيع وقت الجمعة، لسقوط الغاية وهي الجمعة، ويقال ذلك أيضا في غسل الجمعة من حيث ندبه، فهل يبقى مندوبا مع فوات الجمعة،  عند من قال إن غسل الجمعة للصلاة لا لليوم.

6-وفي حالة وجوب ترك الجمعة مع بقاء الحكم الأصلي في وجوب الجمعةـ وأنه قد ارتفع الإثم للضرورة، فهل يجب على من وجبت عليهم الجمعة العزم على صلاتها، بناء على أن الحكم للابتلاء والعزم واجب، كمن علمَت بالعادة أنها تحيض في الغد من نهار رمضان فيجب عليها تبييت النية، ولو علمت الحيض بالعادة المستمرة في نهار الغد، وكذلك مَن كان محبوسا فلا بد له من العزم على الجمعة كما كان يفعل الإمام أحمد -رحمه الله- يتهيأ للجمعة في حبسه ثم يُعذر بالعجز، وأهمية هذا الأمر المحافظة على هيبة الجمعة في النفوس فلو استمر الظرف الطاريء بطاعون كورونا فإننا أمام نفوس تحيى فيها صلاة الجمعة، وهذا مفيد في حفظ كل الواجباب الشرعية التي نعجز عنها، وهذا مُفرَّع على أن الأمر للابتلاء وليس للامتثال.

7 –دائرة الفتوى تمثل الخبرة الفقهية على طاولة صاحب الولايات العامة والمسؤول الأول عن القرار هو صاحب الولاية العامة، ووظيفة الفقية هو تقديم الخبرة الشرعية في الفقه، وأما وزن المصالح والمفاسد على ضوء الفقه هو مسؤولية صاحب القرار، وهو مجلس الوزراء.

8-على الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد أن يعلموا أنهم في اختبار مخالفة أشواقهم الروحية، وهو ترك موضع السجود المألوف، إلى صلاة في البيت غير مألوفة، بل كانت محل استهجان ونهي سابقا، ولكن الفقه لا يتبع العواطف والأشواق، لأن الجمعة تفوت إلى بدل وهي الظهر، أما    الحياة إذا فاتت فإنها لا تتدارك، ولا تفوت إلى بدل.

9-ويظهر هنا التدين المعرفي الذي ينساق وراء الشرع،  ويخالف العاطفة الدينية، وإن الشريعة حرمت الصوم يوم العيد، والصلاة وقت الغروب والشروق لإخراج العبد عن مألوفه، ولتحقيق معنى الاتباع الكامل العاري من الهوى، وأرى أن الذين تعلقت قلوبهم بالمساجد يخضعون اليوم لهذا الاختبار، وهو الخروج من رغبتهم الدينية إلى اتباع الفقه الذي يلتزم منهجا علميا دقيقا، ويتجاوز الأشخاص وميولهم، وقد واسى الله المؤمنين بأن يكتب لهم من الأجر على عملهم الذي انقطع بسبب عجزهم، ولكن أشواق المؤمنين تأبى إلا أن تتولى وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون.

ثانيا: الخبرة في الأحكام العادية:

أهمية الخبرات العادية المختصة (طب، تعليم، اقتصاد، إعلام، أمن الخ) والمراجحة بين المفاسد في نفسها بحيث ترتكب المفسدة الدنيا لدرء العليا، والمراجحة بين المصالحة، وتقديم درء المفسدة على جلب المصلحة عند التعارض، وهذا دور الوازارات جميعا لأن نظرها في الولايات العامة لا من الفتوى ولا القضاء. 

ثالثا: الولاية العامة وظنِّية القرار:

1-ظنية قرار الولايات العامة أمر  لا مفر منه، فهي في عموم المصالح والنظر فيها مختلف، وعليه لا يعترض عليه بالظن الآخر، ممن ليس صاحب ولاية، لأن السياسة الشرعية خالية من القطع عَرِيّة من اليقين، فلا ننتظر قرار سياسة شرعية يقيني أصلا، بل يكفي صدوره مع احتمال الخطأ، وعندئذ يجب التطبيق على وجه الإلزام من الجميع والاعتراض عليه بالرأي والاحتمال لا يؤثر في صحة القرار، ويبقى واجب التنفيذ على الجميع وإن لم يكن مقنعا لدى البعض، وهكذا شأن جميع قرارات الإمامة في النظر في عموم المصالح.  

2-تعتبر وزارات الاختصاص هي صاحبة الولاية العامة كل في اختصاصه، وتكوين قرار الولاية العامة في عموم المصالح هو شأن مجلس الوزراء، ممثلا في رئيسه بوصفه صاحب الولاية العامة على عموم المصالح، وهو المسؤول شرعا عن نتائج قراراته، في توفير الوقاية والعلاج، أما رفاهية الكلام دون مسؤولية من قبل الأشخاص فهي جملة معترِضة لا محلّ لها من الإعراب.

الخلاصة: يجب شرعا التزام جميع القرارات الصادرة من قبل الولايات العامة في عموم المصالح، ودرء المفاسد، وفق أصول الشريعة المتقدمة أعلاه، وإن الأسئلة سابقا أكثرها كانت تقريرية، لتقرير الأصول في المسألة.

ملاحظة: حسبي أنني قدمت إشارات في الموضوع، وكرهتُ التطويل على القاريء، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، وفي طلعة البدر ما يُغْنيك عن زُحَلِ.

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

21-رجب -1441

16-3-2020

8 thoughts on “أصول مسألة حظر صلاة الجمعة والجماعات في المساجد وتعطيل الدوائر والمؤسسات بسبب فيروس كورونا 

  1. مارس 16, 2020 - غير معروف

    لا فض فوك أستاذي الكريم .. هكذا تفهم الأمور بلا تطفيف في العلم ولا تحجير في الفهم .

  2. مارس 16, 2020 - غير معروف

    جزاك الله خيرا

  3. مارس 17, 2020 - غير معروف

    الله يجزاك عنا كل خير د. وليد، على هذا البحث الفقهي الأصولي الجامع، فقد أجدت وأفدت وجمعت وأوجزت، وكفيت عنا ووفيت،أسأل الله أن يبارك لك في علمك، ويجعلك مفيدا الأمة دوما في بيان ما يشتبه عليها إن حدثت نوازل، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتك ويغفر لك ويحسن إليك ووالديك، اللهم آمين آمين آمين..

    أخوك، د. سليمان بن حمود التويجري،
    دولة الكويت :
    pm800800@gmail. com

  4. مارس 17, 2020 - غير معروف

    جزاك الله خيرا وحفظك من كل سوء

  5. مارس 18, 2020 - غير معروف

    بارك الله أخي وأستاذي عاى هذا التوضيح والإفادة أخوكم ومحبكم د أمحمد علالي الأغواط الجزائر

  6. مارس 19, 2020 - د. وليد شاويش

    شكرا لحسن اهتمامكم وبارك الله فيكم والمؤمن مرآة أخيه

  7. مارس 21, 2020 - غير معروف

    أبدعت
    ما شاء الله لا قوة الا بالله
    بارك الله بعلمك و نفعنا و نفع الأمة به
    طريقة مرتبة منظمة في الطرح و المنهجية تشعرنا بالإفتخار بهذا الدين و قدرته على التعامل مع النوازل دون ان يشعر أتباعه بالهم و الإثم من ترك الواجبات في اوقات الاضطرار و اعجبني ما أشرت له من ضرورة العزم على الجمعة وان لم يحضرها للضرورة
    أنار الله بصيرتك و ثبتك على الحق و هدى بك و زادك علما و فهما

  8. أبريل 11, 2020 - غير معروف

    جزاك الله خيرا دكتور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top