فقه العمران درء تعارض حق الحضانة مع حق الولاية في المذهب المالكي

تحدثت سابقا عن خطورة الفجوة المعرفية في مجال حقوق الأسرة وأثر ذلك في اضطرابها وانهيارها، وأتحدث اليوم عن حقوق قد تتعارض في مواضع وتتفق في مواضع أُخَر، ونحن هنا بصدد معالجة مشكلة سوء الفهم بإسقاط حق الولاية للأب بالرضاع، أو العكس، بسبب ما يغلب على الأزواج المنفصلين من تباغض إلى حد قصد الإضرار، الذي يدفع ثمنه الصبي المحضون.

أولا: أصول مسائل الحضانة:

الحضانة هي العناية بالمحضون في طعامة وشرابه ومنامه ونظافة جسمه، وقد قرر الشارع أصول الحضانة وهي: أن الحضانة من حق الأم، ومن حق المحضون، أما الولاية فهي حق للأب ومن ينوب عنه، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار،  والجميع بتقرير من حق الشارع، وهذه هي الأصول الأربعة التي عليها مدار أحكام الحضانة،  ومن ثَم علينا أن نعلم أن ما من حق جعله الشارع لعبد إلا ولله فيه حق، لأن مرجع الحكم هو الشارع.

1-أنتِ أحق به ما لم تنكحي:

أ-أنت أحق به:

هذا الجزء من الحديث بين أن حق الحضانة للأم حيث افترق الزوجان، وذلك أن الشارع تفضَّل برعاية جبلتها وأمومتها وقدمها على الأب، فالأم أشد التصاقا وحنانا بصبيها من أبيه، وهي أيضا حاجة نفسية للطفل أن يبقى في حِجر أمه.

ولا فرق هنا بين أن تكون الأم مسلمة أم كافرة، لضامن الجبلة في الأم، فلا تسقط حضانة الأم الكافرة لأن الشارع عنها راعى الجبلة، وهي أرأف بالصبي بحكم طبعها، وهنا أحالت الشريعة على الجبلة، وإذا حاولت الأم الكافرة التأثير على الولد، أوجب القاضي عليها أن تسكن في حي فيه الصالحون ليتأثر الصبي بالبيئة الإسلامية خارج البيت، وعليه، يجب الجمع بين مراعاة الجِبِلَّة، وحراسة أصول المِلَّة، ولا ترجيح مع إمكان الجمع، مع العلم بأن الابن يبقى في حضانة أمه الكتابية ولو سافر أبوه سفرا بعيده وأم الحاضن فالعصمة.

ب-ما لم تنكِحي:

وفي هذا الجزء من تتمة الحديث الشريف، قدَّم حق المحضون على حق أمه إذا دخل بها الزوج الذي لا يُعد حاضنا للصبي، ذلك لأن الأم انشغلت بحق الزوج، وإذا رافقها صبيها يتضجر منه الزوج لأن الصبي أجنبي عنه، فعندئذ قدمنا حق الصبي في هذا المحل على حق الأم، لفوات القصد الشرعي من إلحاق الصبي بحضانة أمه التي دخل بها الزوج، أما إذا تزوجت ولم يدخل الزوج فالحضانة مستمرة لها إلا أن يدخل الزوج، لفوات مقاصد حضانة الزوجة بالدخول لا بالعقد.

2- (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ):

أ- لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا

لا يحق للأب أن يحول دون حق الأم الحاضنة فيما شرعه الله تعالى لها، فليس له أن يمنعها من حقها في الإرضاع والحضانة.

ب- وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ:

وكذلك الوالد ولي للصبي فله حق الإشراف والنظر، وليس لها أن تحول دون قيام الولي في واجباته تجاه المحضون، فهي لها حق الحضانة بلا إضرار به، وكذلك له حق الولاية دون أن يضر بها، ولا يجوز تعطيل الواجبات والحقوق التي سنتها الشريعة.

ج-وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ:

في حالة وفاة الوالد فإن الإضرار بالوالدة حرام على الوارث لذلك الوالد كما حرم على والد الصبي المحضون.

ثانيا: تطبيقات الجمع والترجيح بين أصول الحضانة:

1-إذا دخل الزوج وكان ممن له حق الحضانة:

إذا دخل الزوج بالأم الحاضنة وكان ذلك الزوج من قائمة من لهم حق الولاية  أو الحضانة،  كأن يكون عَما للصبي أو ابنَ عمه، فعندئذ احتماع حقان: حق الأم، وحق الزوج في الحضانة وله ولاية أيضا،  ولوكان متأخرا في الترتيب، والمقصد الشرعي الذي انتزع الطفل من أمه بسبب دخوله كما بينته في (أولا-1-ب) ليس موجودا في هذه الحالة (ثانيا-1) لأن الحاضن له شفقة وحق حضانة، وعندئذ لا يستطيع الأب أن يستبدَّ بالحضانة إذا تزوجت أم المحضون ممن له حق حضانة، فالجمع بين الحقوق الثلاثة: حق المحضون والأم وزوج الأم من له حق الحضانة، أقوى من حق الأب أو غيره.

2-إذا لم يقبل الصبي إلا أمه:

على فرض أن  القاضي قدر وفقا للظروف أن الصبي يتضرر بمفارقة أمه مع أي من الحاضنين التالين في الرتبة لحضانة الأم، ولأنه لم يقبل غيرها، فعندئذ يحكم القاضي باستمرار الحضانة للأم ولو دخل بها الزوج سواء كان الزوج ممن له حق الحضانة أم لا.

3-عدم مطالبة أحد بحق الحضانة:

إذا دخل الزوج بالأم، ولم يطالب أحد من أصحاب حق الحضانة التالين في الترتيب، بالحضانة فإن الحضانة مستمرة للأم، لعدم تزاحم الحقوق عندئذ.

4-إذا بقيت الزوجة في عصمة الزوج:

وفي هذه الحالة لا تنازع بين الحقوق فالصبي مستمر في ولاية أبيه وحضانته وحضانة أمه، وهذه هي الحالة الذهبية في الحضانة حيث يبقى الابن في حضانة والديه.

5-إذا سافر الولي أو الحاضنة سفر نُقْلة وانقطاع:

أ-معنى سفر نقلة وانقطاع:

معنى سفر النُّقلة والانقطاع، أي أراد المسافر أن يقيم في مكان آخر ويبقى فيها كمن يسافر إلى بلاد ليعمل فيها بشكل دائم، وقد قيد شيوخ المذهب المسافهة بستة بُرُد (120كم)، فإذا سافرَت الحاضنة أو الولي سفَرَ نقلة، حق للولي أن يأخذ المحضون معه، وقد حدد شيوخ المذهب تلك المدة بأنها المدة التي يبقى الولي فيها متمكنا من النظر في مصالح المحضون والاطلاع على أحواله وأخباره، ورعاية مصالحه.

ب-تغيُّر مسافة السفر عرفا:

 ولا شك أن هذا قد تغير اليوم مع وسائل التواصل المعاصرة، ويمكن أن يجمع بين نظر الولي وحضانة الأم في حدود الدولة السياسية المعاصرة، لتمكن الولي فيها من النظر، على خلاف دولة أخرى مختلفة القوانين، وقد تَـحُدُّ من حقوق الولي في النظر، ويجدر هنا أن نميز بين مسافة قصر الصلاة التي هي تعبد، لأنها سبب من أسباب القصر وقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي، وبين تحقيق مناط إمكان نظر الولي بحسب المسافة التي هي حال متغير.

 ج-نظر الولي عام ونظر الحاضنة خاص:

فإذا سافر أحدهما الولي أو الحاضنة سفَرَ نقلة، قُدم حق الولي على حق الحاضنة، ذلك لأن نظر الولي في مصالح المحضون نظر عام، يشمل ماله ودمه ومصالحه، أما نظر الحاضنة فهو نظر خاص في العناية في طعامه ومنامه وفراشه، والنظر العام مقدم عل النظر الخاص، فإذا سافر الولي الذي هو عمُّ الصبي مثلا، وكان للمحضون أعمام آخرون مقيمون في مكان الحاضنة، فإنه يحق للولي المقيم أن ينتزع المحضون من الولي المسافر سفر انقطاع، لأن هناك أولياء مقيمين في مكان الحاضنة، وأمكن الجمع بين حق الولاية وحق الحضانة.

ثالثا: خلاصات مهمة:

1.  راعى الشارع تفضلا من الله تعالى جبلة المرأة، وحاجة الطفل، وحق الولي في النظر، وعلى هذا مدار أحكام الحضانة.

2.  لم يساوِ الشرع بين الرجل والمرأة، بل للشريعة مقاصدها في جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، ونظر الشارع ملتفت إلى تحقيق المقاصد على مستوى الأفراد والمجتمع.

3.  خطورة الرؤى الفلسفية الدنيوية على حياة الأسرة بسبب تجاهل تلك الفلسفة للجبِلَّة التي خلق اللهُ الناسَ عليها.

4.  إن الفكر اللاديني يقدم حقوق المرأة والطفل في العالم الإسلامي لتفكيك الأسرة المسلمة واصطناع الصراع والتناقضات داخلها.

5.  بعد ذلك يهدم الأسرة وفقدان المحضن الأول للعقيدة الإسلامية وهو الأسرة.

6.  بناء على ما سبق جمع الشرع المصالح ودرأ المفاسد عن الأسرة ما أمكن، وحافظ على مصالح أفرادها بالمجموع وبالأفراد.

7.  حيث تعذر الجمع بين المصالح، رجح الشارع الحاضنة في مواطن، ورجح الولي في مواطن أخرى.

8.  الوسواس القهري الذي يعاني منه الفكر اللاديني في المساواة بين الرجل والمرأة، يتجاهل الجبلة والطبيعة التي خلق الله تعالى الناس عليها، وهو جاحد للتنوع الطبيعي ومراعاته.

9.  إن مقاصد الشريعة تمثل مرأة مستوية تعكس المصالح بصورة حقيقية الأبعاد، خلافة للمرآة المقعرة التي تنظر من خلالها المرأة، أو المرآة المحدبة التي ينظر من خلالها الزوج، وليس كل حديث في المقاصد هو في المقاصد بل قد تكون مقاصد مقعَّرة أو محدبة.

10.                إن الذين يخونون الولاية والحقوق المنوطة بهم  بقصد الإضرار خصوصا الزوج والزوجة مستحقون للوعيد الإلهي، والاحتيال بالألفاظ لإسقاط مقاصد الشريعة هو صناعة أصحاب السبت وليلحق كل واحد بقومه.

11.                كثير من المشكلات الأسرية المؤدية إلى الطلاق تقع بسبب فجوات معرفية فقهية، يفتقر إليها المتصدر إلى الإفتاء.

12.                من الخطأ اللجوء إلى الوعظ في ميدان التفاصيل الفقهية التي يجب بيانها، وفيها مقاطع الحقوق.

13.                لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق لها تطبيقاتها الكثيرة التي يجب أن يُلِمّ بها المفتي ولاسيما الذين يعملون في مجال الإصلاح الأُسْري.  

مقالة ذات علاقة:

مع وصلة مقدمة من دَبِّـيـكة حقوق الإنسان في الفكر اللاديني،،، مؤشرات على واقع فقه المجتمع ولزوم الجماعة 

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

   21-رجب  -1442

   5- 3 -2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top