حوار مع أخي (28)   أهمية علم الصرف في استنباط الحكم الشرعي، ما معنى المسجد؟

أحمد: علينا أن نوقر المسجد فندْخُل بالرجل اليمنى ونخرج بالرجل اليسرى، وقد رأيت ناسا يخرجون من المسجد بالرجل اليمنى.

وليد: أين رأيتَه يخرج برجله اليمنى.

أحمد: من السور المحيط بساحات المسجد.

وليد: إذن أنت تظن أن المسجد هو ما يكون داخل السور.

أحمد: نعم

وليد: ولكن منزل الإمام والحمامات داخل السور، ولا يخفى أننا ندخل الحمام باليسرى ونخرج باليمنى، وهي داخل السور، ومنزل الإمام داخل السور، فكيف يدخل الإمام بيته باليمنى ويخرج من المسجد باليسرى؟! فكيف نزيل هذا الإشكال؟

أحمد: لا بد من تحديد معنى المسجد، والمسجد هو مكان العبادة.

وليد: ويمكن أن تكون العبادة في المنزل، وفي قاعة الجامعة وساحتاتها، فالأرض كلها مسجد، من حيث إنها صالحة للصلاة فيها، وعليه لا يعني أن كل مكان للعبادة هو مسجد، يحرم فيه مكث الحائض ويدخل الداخل فيه باليمنى ويخرج باليسرى، ولا تنس أنك جعلت ما داخل السور مسجدا، ومع الأسف فيه الحمامات ومكان قضاء الحاجة، والمساجد تنزه عن النجاسات فالأمر بحاجة إلى تحليل.

أحمد: المسجد اسم مكان، وهو مكان السجود،

وليد: وهل يحرم مكث الحائض في مكان سجودها وهو مكانها في بيتها، بناء على أنك فسرت المسجد بمعنى مكان العبادة.

أحمد: إذن هناك إشكال في تحديد معنى المسجد، وترتب على ذلك اختلالات في الأحكام الفقهية، فما الواجب علينا لمعرفة الأحكام الشرعية للمسجد.

وليد: الواجب الأول أن نعرف معنى كلمة المسجد.

أحمد: وكيف ذلك؟

وليد: نقوم أولا بالتحليل الصرفي لكلمة مسجد، فنقول إن كلمة مسجد يطلق عليها الصرفيون الـمَفْعل، وهي من سجَد يسجُد بضم الجيم، وعليه يكون الـمَـفعَل منها مسجَد، بفتح الجيم، مثل كتب يكتُب مكتَب، فتدل كلمة مكتب على مكان الكتابة، والمسجَد بفتح الجيم على مكان السجود.

أحمد: جميل أن نعرف ماذا يعني المفعل، ولكن محلَّ بحثنا المسجِد بكسر الجيم وليس بفتحها، وبفتحها هو مكان السجود، كما أن مكتب هو مكان الكتابة، فماذا تعني مسجد بكسر الجيم.

وليد: لما كان القياس في اسم المكان هو مسجَد  بفتح الجيم، أراد العرب أن يعبروا عن معنى آخر غير مكان السجود، وهو بيت الصلاة، أي  المكان الذي أُعِدَّ خصيصا للصلاة، فخرجوا عن القياس بفتح الجيم، إلى كسر الجيم للتعبير عن بيت الصلاة، فصارت مسجِد بالكسر للدلالة على بيت الصلاة، أما بالفتح فهي لمكان السجود على القياس.

أحمد: إذن علينا أن نفرق بين المسجِد بالكسر والمسجَد بالفتح، فهي بالكسر بيت الصلاة شاذة عن القياس، أما في مكان السجود فهي على القياس بفتح الجيم، ولكن كيف لنا أن نقول إن في القرآن الكريم كلمات شاذة مثل مسجِد بالكسر.

وليد: لعله حصل لديك لبس بين فصاحة الكلمة وشذوذها عن القياس، فمعنى كلمة شاذة أنها ليست على القياس، ولكنها فصيحة من كلام العرب، ومن المجمع عليه أن شذوذ الكلمة عن القياس لا ينافي فصاحتها، فتكون سماعية لا قياسية،  وقد رأينا لماذا خالفت العرب القياس، لأنها رأت معنى جديدا لا تعبر عنه كلمة مسجَد بالفتح التي تدل على مكان السجود، فلما رأوا معنى جديدا وهو بيت الصلاة، احتاجوا أن يعبروا عنه بلفظ جديد فخرجوا عن القياس للتعبير عن ذلك المعنى فوضعوا له لفظا وهو المسجد بالكسر، ونقول فصيحة سماعية ليست على القياس.

أحمد: تمام، ولكن ما الذي يدرينا أن الشرع يعبر بلفظ المسجد بالكسر عن بيت الصلاة، فهاهو الشارع استعمل الصلاة، والزكاة، والصيام والحج، بغير المعاني التي وضعتها العرب، فالصلاة لغة الدعاء، ولكنها الآن ليست الدعاء بل هي ذكر وقراءة وركوع وسجود وأفعال لا تدل عليها اللغة، ولا تُدْرَى إلا من جهة الشارع، كالحج والزكاة والصوم، ففيها مقادير لا تعرف من جهة اللغة، بل من جهة الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما هو المعنى الذي أراده الشارع من كلمة مسجد؟

وليد: علينا أن نعلم أن الشارع حَفّ بعض الكلمات العربية بشروط زائدة على المعنى اللغوي، ككلمة الصلاة والزكاة والصوم والحج، واستعمل كلمات أخرى لم يحفها بشروط أخرى زائدة، بل بقيت على دلالة الكلمة في اللغة في وقت تنزل القرآن الكريم، فلما لم ينقلها إلى معنى جديد فهي تبقى على لسان العرب، ومنها كلمة مسجد، فلما لم يغير عليها الشارع شيئا بقينا على اللغة في المسجد بالكسر وهي بيت الصلاة.

أحمد: وما بيت الصلاة الآن الذي يُعدُّ مسجدا.

وليد: المسجد هو بيت الصلاة، فالساحات الخارجية والحمامات، والقاعات المؤثثة للتدريس وبيت الإمام فهذه ليست معدة لتكون بيت الصلاة، فيكون بيت الصلاة المعد هو المكان المفروش بسجاد الصلاة المعد لها، فهو مسجد له أحكام المسجد الشرعية من حيث حرمة المكان على الحائض والجنب وسنية الدخول باليمنى والخروج باليسرى وغير ذلك من أحكام.

أحمد: ولكن لو أن أحدهم تعدى على أرض ساحات المسجد نرفع قضية بأنه تعدى على أرض المسجد، ولكن الساحات ليست مسجدا، كما تقول فما الحل لحماية الأرض وهي للمسجد.

وليد: مرافق المسجد تعد مسجدا بالعرف الحاضر، لا بالشرع الظاهر، وعليه فإن الدوائر المختصة من دائرة الأراضي ووزارة الأوقاف وغيرها تتكلم بعرفها، ويمضي عليها عرفها في قولها وهو أن المسجد كل ما هو داخل السور، فهو مسجد.

أحمد: وبناء على ذلك نقول إن للمسجد دِلالتان، دلالة لغوية وهي نفسها الشرعية، ودِلالة عرفية في وزارة الأوقاف ودائرة الأراضي، وعرف الناس اليوم أننا يجب أن نحافظ على نظافة المسجد فهذا يعني المعنى العرفي ويشمل بيت الصلاة والمرافق التابعة وما داخل السور، وحيث وردت في لفظ الشرع فهي بيت الصلاة فقط.

وليد: فنحمل دلالة لفظ الشارع على اللغة حيث وردت في النص الشرعي، لأنه لم يكن لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم مرافق، ولا سور، فهذه لا تدخل في الوضع اللغوي الذي هو نفسه الاستعمال الشرعي، ولكنها تدخل في عرفنا القولي والقانوني، فأجر كل قوم على عرفهم في لفظهم.

أحمد: لماذا لا نجعل المعنى العرفي اليوم هو نفسه المعنى الشرعي، ونعطي أحكام بيت الصلاة لمرافق المسجد لأنه في عرف الناس مسجد.

وليد: لا يقضى على الشرع الظاهر بالعرف الحاضر، فالشرع يبين المعاني الشرعية لا العرفية، ولو فعلنا ذلك لحرمنا ما أحل الله فيصبح بيت الإمام مسجدا، وكيف يعيش حياته في بيته بأحكام المسجد شرعا، ناهيك عن مرافق الحمامات فإن وصفها بالمسجد شرعا هو إهانة لبيت الله المنزَّه عن النجاسات.

أحمد: جميل، ومن المهم أيضا أن نعلم أننا لو أخرجنا المرافق من الدلالة العرفية للمسجد، لتعدى الناس على المساجد، وتهاونوا في مرافق بيوت الله، فاعتبار العرف والشرع هنا حاميان لأحكام الشريعة وفي الوقت نفسه حاميان للمسجد بالمعنى العرفي الحاضر،

وليد:  لا يقضى على الشرع الظاهر بالعرف الحاضر فيها بيان لكل من يحاولون العبث بالشريعة بذريعة تغير العرف، وها نحن في حوارنا عملنا  يالعرف بقدره ودلالة الشرع بقدرها وحمينا الشريعة والعرف معا. وعليه كيف استطعنا أن تحمي المسجد شرعا وعرفا.

أحمد: بالتحليل الصرفي لكلمة مسجد، حيث ميزنا بين مسجد بمعنى مكان السجود ومسجد بمعنى بيت الصلاة، ثم تحدثنا عن المعنى العرفي للمسجد، وعرفنا الأحكام الشرعية وطرق تطبيقها، كل ذلك بالتحليل الصرفي، ولكن أين أجد مثل هذا العلم.

وليد: تجده في لامية الأفعال لابن مالك وشرحها لابن زين.

أحمد: ما اسم الكتاب.

وليد: الطُّرّة، وهو موجود بطُرتي التي كتبتها بين يدي شيخي أحمد المصطفى، وقد سميتها الطُّرة على الطُرة، وقالوا فيها: تعب شهر وندامة دهر، أي من لم يتعب فيها شهرا، ندم الدهر لما فاته من العلم.

أحمد: الحمد لله على ذخيرتنا العلمية الجامعة.

تحميل كتاب الطرة على الطرة

شرح الدكتور وليد شاويش على الطرة

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

26محرم 1441

26-9-2019

1 thought on “حوار مع أخي (28)   أهمية علم الصرف في استنباط الحكم الشرعي، ما معنى المسجد؟

  1. ديسمبر 20, 2019 - غير معروف

    جازاكم الله عنا خير الجزاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top