الجزء الأول: علم أصول الفقه بين التجديد والتهديد … جولة في المدارس الابتدائية في الصين ومجاهيل إفريقيا

أولا: تمهيد:

1-إن المتتبع لمراحل تطور علم أصول الفقه يدرك أن هذا العلم  ينمو نموا طبيعيا مع مرور الزمن، يعني أن المرحلة التالية هي بناء على المرحلة قبلها، فهو علم موجود كعلوم الطبيعة، والعلماء يكتشفون كل يوم فيها شيئا، وتزداد العلوم ببناء اللاحق على بناء السابق، وهكذا حتى أصبح علم الأصول علما لا يجارى ولا يبارى في العقلية الإنسانية، التي تمخر عباب الحياة بسفينة العقل شراعها النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نجوم الهدى والتابعين لهم بإحسان، فكان الإبداع في علم الأصول هو روعة الهندسة والبناء، وعليه فأنا لا أتحدث عن المحاولات القيِّمة في تجديد أصول الفقه، بل أتحدث عن محاولات الهدم باسم التجديد.

2-ففي زماننا هذا ظهرت مقولات شاذة كالمساواة في الميراث، وإنكار القصاص ونسبت للشريعة، وردها العلماء وفق ميزان أصول الفقه في الاستدلال بموضوعية وهدوء وتجرد، فرأى أصحاب تلك المقولات الشاذة أن يبنوا أصولا جديدة تكون خُشُبا مُسنَّـدة لِيـُـلْقوا عليها جثث مقولاتهم التي لا تنهض على قدمين، وكانت محاولاتهم التجديدية -بزعمهم، هي عبارة عن أمر إزالة لعلم أصول الفقه الإسلامي، السد المنيع أمام تسويق منتجات الفكر اللاديني عن طريق تعبئتها في قوارير ماء زمزم.

3-إن العباطة الفكرية باسم التجديد لها سحر على قلوب بعض شباب المسلمين، أكثر من أهمية الكشف عن المضمون والمادة التي عبئت بها قوارير زمزم، وقد اتخذت وسيلة لها للانتشار عبر التأثير على العواطف واستخدام كلمة العقل وأخواتها بكميات تجارية، ولكن الرد الأصولي هو رد علمي يرتكز على بديهيات العقل الإنساني، وفي مقالتي هذه أحب أن أبسط المسألة قدر الإمكان، فإن وفقت فمن الله وإلا فمن نفسي.

ثانيا: عرض مسبق لواقع التفكير:

إن الفكر اللاديني الأوروبي قد نشر الشك والاستِعباط في الدنيا وجعل له منهجا، يبدأ بالشك وينتهي بالإلحاد في آيات الله، ولم يكتف هذا الفكر في نشر الإلحاد العَبيط وتشويه المعرفة، بل هدم المرتكزات والقواعد التي تستند إليها المعرفة، والقواعد العقلية القطعية التي يقوم عليها العقل الإنساني، وهي تلك القواطع العقلية التي كانت محل خطاب الله تعالى للإنسان، وبعض محاولات التجديد في  علم الأصول، نسيت المرتكزات التي تم استمداد علم أصول الفقه منها، فمحاولات الهدم باسم التجديد تطلب منا الكشف عن القواعد التي بني عليها علم الأصول، ومن تلك القواعد بديهيات العقل البشري التي لا تقبل التشكيك أصلا.

ثالثا: مثال على قطعيات العقل البشري جولة في المدارس الابتدائية:

1- ولبيان الركائز المعرفية في الإنسان رأيت تجسيد علم أصول الفقه للعامة بأسلوب سهل في المثال الآتي، سندخل اليوم إلى  مدرسة ابتدائية في الصين، وسنقول لطلاب الصف الرابع الابتدائي اذهبوا إلى الساحة، ونقول لطالب معين اذهب للإدارة، ما هو المتوقع؟ سيذهب الطلاب للساحة بناء على النص العام، وسيذهب الطالب المعين للإدارة بناء على النص الخاص، ولن يكون هناك أي إشكال، مع أنه مشمول في كلامنا اذهبوا إلى الساحة، ولو أعدنا  المثال في مجاهيل إفريقيا وبلاد الواقواق، وهنولولو، لن تجد إشكالا عند هؤلاء الأولاد، لأنهم لم يتأثروا بعد بعباطة  الشك في الإلحاد.

2-على فرض أن الطالب المعين الذي قلنا له اذهب للإدارة قلنا له خفية اذهب مع الأولاد للساحة، لنكتشف ردة فعل بقية الطلاب، سنرى أن الطلاب يقولون له لقد قال لك الأستاذ اذهب إلى الإدارة فلم جئت معنا، وسيكون فعله محل استغراب شديد من الطلاب، وهذا الذي فهمه الطلاب من كلامنا هو ركائز المعرفة التي ركزها الله تعالى فينا وعليها تبنى المعرفة، وإن لم ندرسها في جامعة وإن لم ندخل في المدرسة، وهو الأساس الذي بنى عليه الأصوليون العلاقة بين النص العام والخاص ووجوب العمل بكل منهما في محله.

رابعا: كيف يتعامل مقلِّدة العباطة الفكرية الغربية مع النصوص الشرعية:

1-لو كانت النصوص التي خاطبنا فيها طلاب المدارس الابتدائية نصوصا شرعية، لرأيت مقلدة الإلحاد من تلاميذ الأحبار والرهبان يقولون: لماذا يذهب فلان للإدارة، ويذهب البقية إلى الساحة، أين العدالة والمساواة؟! ألسنا جميعا بشرا متساوين؟! أليس ذهاب الطالب للإدارة قد يكون عقوبة له؟! ويمكن أن يضرب في الإدارة، والضرب ممنوع بأمر من وزارة التربية والتعليم، أليس ذلك الطالب بحاجة للطعام؟!! فلم لا يذهب للساحة ليأكل الطعام، ليتقوى على حصص الدراسة التالية، فإن لم يذهب للطعام فإنه سوف يصاب بِدَوْخة، وقد يكون مريضا بالسكري وطاعته للأمر ستؤدي إلى موته، ولا بد من إنقاذ الموقف وعدم تنفيذ النص حتى لا يموت الطالب!!.

2-يبدأ بعض الدعاة الجدد هنا في تحليل الموقف ومهمته هنا هي كيفية التخلص من طاعة النص الشرعي، أليس من مقاصد الشريعة حفظ النفس الإنسانية، ألم تأت الشريعة لمصالح العباد، لماذا يموت هذا الطالب المسكين، ما ذنبه؟؟ ألم يقل الله تعالى ولا تزر وارزة وزر أخرى؟ وقد جاءت الشريعة لمصالح العباد، وليس للتمييز بينهم، فالمساواة مقصد عالٍ من مقاصد الشريعة، والإسلام هو دين العقل، ويمكن للعقل أن يخصص الشريعة، فنقول للطالب المسكين اذهب مع زملائك هذا هو العقل الذي يدعو إليه الإسلام الذي هو دين الحرية والمساواة!!! ولا تتمسك بحرفية النص ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه يا بني، وعليك بروح النص، وهذا يا بني هو مذهب الراسخين في العلم!!! الذين لا يقفون عند حرفية النص، وسلطة الفقهاء، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك هو العقل الذي كرمه الله تعالى!!!! وبما أنه جاز للطلاب أن يذهبوا إلى الساحة ولا ضرر في الذهاب للساحة، والقاعدة الفقهية المحكمة تقول: لا ضرر ولا ضرار!!

خامسا: ولكن ماذا بعد أن يطلع الصبح:

1-طلع الصبح وأشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب،  وظهرت النتائج، ألا وهي حرمان الطالب المعين فلان من جائزته لعدم حضوره للإدارة، واعتبر بناء على ذلك رافضا الجائزة، بعد أن بلغ الطالب رسميا وشفهيا بالحضور للإدارة، ولكنه كذب وعصى، وفشل في الاختبار،  وهو فهم النص وطاعة الأمر، فقد كان النص واضحا وبلغه الأمر،  وقد جاءه تحذير من الله ورسوله، بوجوب اتباع السنة التي هي عقل ونقل، ولكنه آثر هواه، وافترى على الله الكذب ولَبَس العقل الحق بالأوهام الباطلة، ومقاصد الشرع الحكيم بالهوى الذميم، ولو اتبع العقل حقا لَـهَداه إلى ربه وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم، وفي المثال ذهب للإدارة ونال جائزته، وهذا خير له من اتباع التعليلات الخفية غير المناسبة، وهي كلام مرصوص وجميل ولا حقيقة فيه.

2-سيقول صاحبنا أنا اتبعت الذين قالوا بتخصيص الشريعة  ونسخها بالعقل، ولكن بم يجيب إذا قيل له لماذا لم تتبع العقل في إسقاط  نصوص القوانين الوضعية وعدم القضاء والالتزام بها، وكذلك الأوامر الإدارية في العمل؟ لماذا لم تقل للقاضي يمكنك نسخ القانون بالعقل كما قلت للمسلمين، ولا حاجة للعودة إلى مصدر القانون وهو البرلمان  لتعديله أو إلغائه؟ لماذا لم تطبق  وهمك على القانون كما طبقته على الشريعة فحسب، لماذا لم تخصص القرارات الإدارية التي كنت تنفذها بحذافيرها وكنت تقول علينا أن نحترم القانون؟   لماذا لم تعظم كلام ربك وهو أولى بالتعظيم من كلام الناس؟ إذن أنت متلاعب بالعقل، ولست عِلميا البتة، بل استخدمت ألفاظ الشريعة كالتخصيص والنسخ لإضلال الناس، ليحسبه الناس أنه من عند الله وما هو من عند الله.

سادسا: أصول الفقه مستمد من بديهيات العقل الإنساني:

إن الطالب المتمرد سيحاسب مع أنه كان تابعا في الضلالة، بناء على معاندة بديهيات العقل البشري التي هي عنوان التكليف الشرعي، إن هذه البديهة في العقل الإنساني في المثال السابق أخرجها علم أصول الفقه من مسلمات العقل البشري ، وليس عقل إنسان مخصوص مسلما كان أم كافرا، ففي المثال المذكور أمرنا للطلاب بالتوجه للساحة هو أمر عام لجميع الطلاب ومعهم ذلك الطالب المعين، وجاء الأمر للطالب المعين بالذهاب للإدارة هو أمر خاص، وعند الأصوليين الخاص قطعي في محله وهو الطالب المعين، وعليه أن يذهب للإدارة، وبقية الطلاب يشملهم الأمر بالذهاب للساحة، ويقرر علم الأصول أنه لا تعارض بين العام والخاص لأن الخاص محله الطالب المعين، والعام محله جميع الطلاب  ماعدا  الطالب المعين، لذلك لم يرتبك الطلاب، ولم تحدث بينهم المشاحنة والفرقة.

سابعا: ماذا يعني أن علم الأصول مستمد من بديهيات العقل الإنساني؟

ما يحدث اليوم من قبل طائفة اللادينيين ومقلدتهم هو محاولة صناعة أصول فقه تشبيهي، يضرب النص العام بالخاص ويوهم الجمهور بوجود التناقض بينهما، تمهيدا لإسقاط الأدلة الشرعية، ثم دعوة الناس إلى أفهامهم الخاصة المضطربة، يعني سنكون أمام حالة كهنوت الإلحاد، وحلول رجال اللادين محل رجال الدين، والنتائج غالبا هي ما يقدمونه من الشك والوهم باسم العقل، بعد أن تم ضرب مرتكزات العقل الأساسية، التي رأينا أن الطلاب في المدارس الابتدائية يفهمونها، حتى تحل عليهم لعنة الإلحاد في آيات الله تعالى، فبعد ذلك ينكصون على أعقابهم، بسبب اضطراب مرتكزات العقل الإنساني، التي أهلت العقل لاستقبال خطاب ربه.

ثامنا: واجب علماء الأصول اليوم:

إن الإلحاد قام على هدم قواعد التفكير عند الإنسان، وأصبح الإنسان في شك مريب، دينه الشك وينتهي بالإلحاد، فعندما تريد أن تناقش في إثبات حكم شرعي طالبك بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وبالإجماع ، وبعد ذلك تأتي مرحلة الشك ووساوسه في الأدلة، ويضرب العام بالخاص،  ثم يفاجئك بحالة من الهواجس التي تضيق بها ذرعا، وبعد أن يهدم كل مرتكزات العلم، يطالبك بدليل علمي، وهي حالة غثائية مهزومة همها أن تقلد القوة الغالبة في المادة، لا في البراهين والأدلة.

ملاحظة:لم أضرب أمثلة على الاضطراب في فهم  النص العام والخاص رغبة مني في تقرير -إن صح التعبير- أصول الأصول أولا، ثم أوضح أن الاضطراب لم يكن من الأدلة الشرعية، بل هو نتيجة ارتباك المسلمين في الواقع، ثم فرضوا -مع الأسف- ارتباكهم هذا على أدلة الشرع.

حلقة تلفزيونية بعنوان: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة.

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عَبْـدُ ربِّه وأسِيرُ ذنْبِه

د. وليد مصطفى شاويش

غفر الله له ولوالديه

عمان المحروسة  

صبيحة الجمعة المباركة 20-5-2016

1 thought on “الجزء الأول: علم أصول الفقه بين التجديد والتهديد … جولة في المدارس الابتدائية في الصين ومجاهيل إفريقيا

  1. ديسمبر 9, 2018 - غير معروف

    جزيت خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top