خَصخصة الشريعة بِوَهْم المصلحة … النص متقدم على الواقع

 تظهر أحيانا دعاوى للوصاية على النص الشرعي وتوجيهه وِجهة مصلحية بحسب نظر صاحبها، فهو يقرر المصلحة أولا من وجهة نظره، ثم ينظر في النص فيجد النص على خلاف ما يتوهم هو من مصلحة، فيبدأ بتأويلات متعسَّفة تكاد تنتهي إلى نسف النص بحمله على حالة ما في التاريخ وأن الوقت قد تغير.

أولا: وهم المصلحة:

مررت بتجربة عملية في بعض أبحاثي الاقتصادية، ومنها رسالتي للماجستير بعنوان: بيع السلم بين الفقه الإسلامي والفكر الاقتصادي الوضعي، فوجدت أن العديد من القانونيين والاقتصاديين وبعض الشرعيين يقفون ناقدين اشتراط الفقهاء دفع جميع الثمن مقدما إذا كانت السلعة مؤجلة، مع أن الإجماع منعقد على وجوب تعجيل الثمن وتحريم تأجيل البدلين معا، وذهب الناقدون لمناقشة الإجماع ودفعه، وترداد مقولة صحيحة في غير موضعها، وهي أن من ادَّعى الإجماع فقد كذب، وأن الأسواق العالمية قائمة على جواز تأجيل البدلين، وهذا الشرط أعني شرط وجوب تعجيل الثمن شرط قاسٍ! والمصلحة هي في تجاوز هذا الشرط.

ثانيا: لماذا النص هو المصلحة فعلا:

ما أعتقده وأدين الله تعالى به، أنه سبحانه هو العليم الحكيم الخبير، وكما أن الكعبة هي قبلتنا في الصلاة، فإن مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم هي قبلتنا في فقه المعاملات، وإن حصل في ظن الإنسان أن هناك تناقضا بين النص والمصلحة، فإنه إما أن تكون المصلحة متوهَّمة في ظنه، أو أنه توهم في فهم النص وثبوته، لأن النص من الله تعالى والشريعة مبناها على مصالح العباد، فمن أين سيأتي التناقض؟! فالتناقض بين النص والمصلحة لا يكون أبدا في نفس الأمر، بل هو وهم واقع في نفس الإنسان فقط.

ثالثا: تأجيل البدلين كان من أسباب الأزمة المالية العالمية:

عندما ناقشت في رسالتي وجوب التعجيل في الثمن في المسلم إليه وانتصرت للسنة، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ومعنى أسلف أي قدَّم، وكان هذا النص الصحيح هو مستنَـدَ الإجماع عند الفقهاء، وانتصرت للنص والإجماع موقنا بأنهما هما المصلحة فعلا، وأن الله أعلم بنا وبأحوالنا من أنفسنا، بقيت متسائلا عن الفهم الاقتصادي للنص الشرعي، وأبحث عن المصلحة الفعلية، وأين هي في اشتراط تقديم الثمن معجَّلا إذا كانت السلعة مؤجلة.

رابعا: أين المصلحة فعلا؟

ظهرت الأزمة المالية العالمية، وبدأتُ أبحث عن الأسباب العميقة لهذه الأزمة، وكان من تلك الأسباب تأجيل البدلين في الأسواق المستقبلية،  ومَن لا يملك الثمن أو يملك جزءا منه، فإنه قادر على أن يشتري بعشرة بأضعاف الثمن الذي يستطيع دفعه، مما يصنع طلبا وهميا على السلعة، ويزيد في ثمنها على المستهلك النهائي لها، قد يصل قريبا من ضعف الثمن العادل، فإذا تم تطبيق السنة التي ضاق بها بعض القانونيين والاقتصاديين، فإن ذلك سيؤدي إلى إلغاء الطلب الوهمي على النفط مثلا، وقد يصل الثمن العادل إلى النصف فعلا، أما الزيادة الملغاة في الأسعار فهي أرباح المتلاعبين في السوق، ممن لا يدفعون الثمن مقدما، بل يدفعون جزءا منه، وينتهي الأمر إلى تصفية الصفقات الوهمية، وإلى دفع فروق الربح بين المتبايعين فقط، دون تسليم السلعة وتسلُّمها.

خامسا: نعمة النص في الحجر على السُّفهاء المتطفلين:

لقد كان اشتراط الشريعة دفع جميع الثمن شرطا حاسما في منع المشترين الوهميين من دخول السوق، الذين لا يدفعون الثمن، ولكنهم يصنعون طلبا وهميا يؤدي إلى رفع السعر على المستهلكين النهائيين من الشعوب المسترَقَّة لصالح المتلاعبين بالأسواق العالمية للسلع، وهنا تؤسس الشريعة لمبدأ العدالة  في السوق عبر الإجماع والنص اللّذين تحرُم مخالفتهما، وأن جدار النص والإجماع سدَّان منيعان من طوفان الظلم الذي يتفلّت من النص الشرعي، والظالمون سيجدون في النص والإجماع حاجزا لا بد من محاربته وهدمه، لخصخصة الكتاب والسنة وتحويلهما لخدمة رأس المال والقطاع الخاص، والسلطة الأقوى.

سادسا: خصخصة الشريعة بوهم المصالح والمقاصد:

ليس من شك أن مقاصد الشريعة الإسلامية قد عرفت من نصوصها، وأن نصوص الشريعة هي العلامات الفارقة لهذه الأمة عن غيرها في اعتبار ما هو مصلحة أو وهم المصلحة، لذا لا يجوز أن تتحول المقاصد الشرعية النبيلة إلى فأس نهوي به على جذور المقاصد وهي نصوص الشريعة، ثم بعد ذلك يصبح مفهوم المصلحة هو مصلحة الأقوياء من أصحاب رأس المال والشركات العابرة للقارات، فحيث رأيت صداما من النص الشرعي بحجة المصلحة، فاعلم أن ثَمة إشكالا كبيرا في فهم النص وتطبيقه.

سابعا: من الذين يصطدمون مع النص الشرعي:

إن الذين يصطدمون مع النص الشرعي هم الذين يجدون النص خلاف مصلحتهم، بوصفهم أصحاب رأس المال الشرس، وقد صادم النص مصلحتهم الفئوية الضيقة فعلا، لكن النص الشرعي كان ينتصر لمصلحةٍ أقوى وأفضل، وهي مصلحة العدل بين أصحاب رأس المال والمستهلكين النهائيين للسلعة، والمجتمع بصفة عامة، والعدل هو المصلحة العليا للمجمتع، وليست مصلحة فئة خاصة، وهو نقطة التوازن بين التجار البائعين والمستهلكين، فإنْ رأيت مَن يعزف على هجر النص الشرعي بدعوى المصلحة، فهو يتحدث عن  مصلحته الضيقة، والشرع لم يأت لمصلحته الخاصة، بل لمصلحة الشأن العام، وهذه المحاولة البائسة لدفع النص بوهم المصلحة هي بحث عن خصخصة الإسلام، وإخضاعه لقوى السوق المتصارعة، والأقوى بعد ذلك هو الذي يحدد ما هو الإسلام، ويفسر الإسلام على وَفق قوته ووهمِه، وهذا ما فعلته بنو إسرائيل في تحريف الكلم عن مواضعه، وعندئذ تصبح الفتوى على ذَهَبِ المعز وسيفه، ونصبح أمام قاعدة فقهية جديدة هي: الفتوى للأقوى.

الكسر في الأصول لا ينجبر 

انظر للكاتب حول هذا الموضوع بحثا منشورا بعنوان: الأزمة المالية العالمية رؤية نقدية.

 د. وليد شاويش

عمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة

22/1/2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top