ضجة التفريق بين الصوم والصيام…ولزوم ما ليس فيه إلزام…وسع صدرك

سئلت كثيرا من قبل بعض الإخوة الأعزاء والأخوات الفضليات في موضوع التفريق بين مفردتي الصوم والصيام، حيث تداولت مواقع التواصل مقطع فيديو يزعم صاحبه أن الصوم في القرآن هو في الامتناع عن الكلام، أما الصيام فهو الامتناع عن الطعام، ولم أعط الأمر بالا، بناء على أنها أسئلة عابرة وتمضي، وقلت مختصرا الجواب: إن هذا التفريق لا تسنده لغة، لأن الجذر للمصدرين واحد هو صام، ولكن هذا التفريق بين الصوم والصيام أصبح على ألسنة كثيرين في مجالسهم، ومواقع التواصل الاجتماعي، وبما أن الأمر له علاقة بالدلالة القرآنية رأيت أن أبين دلالة الصيام والصوم، وتدقيق النظر فيهما:

أولا: أنواع دلالة اللفظ في القرآن الكريم:

هناك ثلاثة أنواع لدلالة الكلمة في القرآن الكريم، وهي على النحو الآتي:

1-دلالة الوضع:

وهي معنى الكلمة في المعجم، وهذه قبل نزول القرآن الكريم في كلام العرب، فكلمة الصوم والصيام جذرهما واحد لا يختلف، وهو الفعل: صام، الذي يعني مطلق الترك، سواء كان ترك العمل أو الطعام أو الكلام الخ، وهذا المعنى أي مطلق الترك موجود في المصدرين صوم وصيام، ولا يصح أن يقال إن صيام تكون في الطعام فقط، ولا تكون في الكلام، لقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام)، وإن كلمة صوم تكون في الكلام لا تكون في الطعام، لقوله تعالى (إني نذرت للرحمن صوما) ، ذلك لأن مطلق الترك حاصل في كلا الفعلين، من حيث الدلالة اللغوية، وهو ترك الكلام وترك الطعام، ولأن  الفعل صام هو جذر لهما معا، وهو بمعنى واحد فكيف يكون مرة في الكلام ولا يكون في الصيام، ومرة في الصيام لا في الكلام؟!

2- دلالة الاستعمال:

أما الدلالة الثانية فهي دلالة الاستعمال، وهي وصف في المتكلم الذي يستعمل الكلمة، والقرآن هو كلام الله تعالى، فاستعمال كلمة الصيام في الامتناع عن الطعام في القرآن الكريم، لا يعني نفيها عن الصوم عن الكلام كما فعل بعضهم، ولا يعني استعمال كلمة صوم في الامتناع عن الكلام نفي الدلالة الوضعيه وهي مطلق الترك، في أنها تصلح للتعبير عن ترك الطعام، فالاستعمال القرآني لا يتعارض مع الوضع اللغوي.

3-دلالة الحَمْل:

وتعني هذه الدلالة هي فهم المفسر لمفردات القرآن الكريم، فبالتأكيد يحمل المفسر الصوم قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوما، فلن أكلم اليوم إنسيا)، على الامتناع عن الكلام، بدليل ما بعدها (فلن أكلم اليوم إنسيا)، فيحمل الصوم على ترك الكلام، وليس لأن الصوم في اللغة هو ترك الكلام، بل لأن الصوم هو ترك، وجاء ما بعده ليدل على نوع المتروك وهو الكلام، الذي دل عليه السياق، وليس لأن الصوم في اللغة هو ترك الكلام بعينه، ولو لم يبين الله تعالى نوع الترك في قوله تعالى (فلن أكلم اليوم إنسيا)، لبقي الصوم مطلقا ولصلح أن يكون بمعنى الصوم التعبدي وهو ترك الطعام، لأن ألفاظ الشرع تحمل على المعنى الشرعي، لأن الوحي جاء لبيان الشرع، ما لم تكن  هناك قرينة صارفة عن المعنى الشرعي، ويقال ذلك في كلمات: الصلاة، والزكاة، والحج وغيرها في كتاب الله تعالى، فتحمل على المعنى الشرعي لا اللغوي، ما لم يكن هناك قرينة صارفة عن المعنى الشرعي.

ثانيا: إذن ما الفرق بين الصوم والصيام؟

1-السؤال الكبير:

ولكن السؤال الـمُلِحّ هو: ما الفرق بين صيام وصوم على فرض أن كليهما صالح ليكون في الطعام أو الكلام، قلت: إن الفرق الصيام فيه زيادة في المبنى تعني زيادة في المعنى، وهو كثرة المشقة في ترك الطعام والشراب، ويمكن أن يقال في طول ترك الكلام والمشقة فيه صيام أيضا، ولا يجوز أن نقول بتعارض دلالة الاستعمال مع دلالة الوضع أو الحمل، لأن الله تعالى وصف القرآن بأنه عربي مبين، فتكون الدلالة الوضعية (اللغوية) هي مطلق الترك، ودلالة الاستعمال صفة في المتكلم أنه استعمل الصوم في الامتناع عن الكلام، والصيام في الامتناع عن الطعام، أما دلالة الحمل فهي عمل المفسر والشارح، فهي صفة في السامع، فيحمل الصيام بدلالة القرائن على نوع الترك وهو ترك الطعام لدلالة السياق، والصوم على ترك الكلام لدلالة السياق، وهذا هو عمل المفسر والمجتهد، ويمكن للشرع نفسه أن يستعمل الصوم بمعنى الامتناع عن الطعام كما استعمله بمعنى الامتناع عن الكلام.

2- إمام الفصاحة والبيان يستعمل مفردة الصوم بمعنى ترك الطعام وليس الكلام:

فقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ” ، فتحمل مفردة الصوم هنا على الصوم الشرعي وهو ترك المفطرات من الصبح للغروب بنية، مع أن دلالة الوضع (اللغة) هي مطلق الترك، فيحمل المجتهد هنا كلمة الصوم على المعنى الشرعي للصوم، وتسمى هنا دلالة الحمل، التي هي صفة المفسر والمجتهد، لأن المتكلم هو الشارع، وتستخدم ألفاظ الشارع بحسب عرف الشرع، لا اللغة لأن الشرع جاء لبيان المعاني الشرعية لا اللغوية، فبم يجيب من حمل كلمة الصوم أنها لا تكون إلا في الامتناع عن الكلام، وهاهو إمام الفصاحة والبيان يستعملها بمعنى ترك الطعام لا الكلام!!! أم أن حُـمَّى الغريب والكلام المدهش لجذب الجمهور من العامة تفشى في مواقع التواصل، وأصبح الناس أسرى البحث عن التسلية بالأقوال النادرة والأخبار الطريفة من كل حدَب وصوب دون التحري عن هذه المقولات ومدى توافقها مع المعارف الشرعية.

ثالثا: لا صوت يعلو فوق صوت الخليل… سبب الإشكال:

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجم العين: ( الصَّوْمُ: تَرْكُ الأكلِ وتَرْكُ الكلام)، فلا فرق بينهما، ولكن الإشكال طرأ لعدم التمييز بين: دلالة الوضع، ودلالة الاستعمال، ودلالة الحمل، وما أثير من ضجة التفريق بينهما في أن الصوم يكون عن الكلام والصيام في الطعام، لا تسنده لغة ولا دلالة الاستعمال القرآني في الصيام، ولكن ما ما ورد في القرآني اتفاقي أي اتفق ذلك للقرآن أنه استخدم الصيام في الطعام،  والصوم في الكلام وقد اتفق للشارع أيضا أن استعمل الصوم في الطعام أيضا، جاء في الصحيح  ” بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان ”  فاستخدم الصوم هنا بمعنى ترك الطعام، واستعملت في القرآن بمعنى ترك الكلام، ولا تعارض لأن الترك حاصل في كل منهما، وقصر الصيام على الطعام والصوم على الكلام تكلف لا تسنده الدلالة، ولا الكتاب ولا السنة، وكتب السنة حافلة باستعمل كلمة الصوم بمعنى ترك الطعام لا الكلام.

رابعا: أين هي المشكلة الحقيقية… انتحال “الحكواتي” شخصية المفتي؟

1-أين هي المشكلة الحقيقية:

تكمن هذه المشكلة، أنه بعد انتشار الخطأ في المعرفة، ويصبح ذلك الخطأ هو حقائق مسلَّمة، بسبب فشوه في الناس، أن يصبح الصواب غريبا، ولْنفترض أن هذه المقولة في التفريق بين الصوم والصيام في دلالة اللغة بغير التفصيل الذي بينته سابقا، هي المعرفة الدارجة، ثم جاء أحد يروي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه (صوم ثلاثة أيام)، فكيف تكون المعرفة الدينية بناء على الخطأ الشائع، وهو أن الصوم لا يكون إلا في الكلام، فسيكون معنى الصوم: هو ترك الكلام ثلاثة أيام، بناء على هذه الآراء الشخصية الغريبة التي تعبث باللفظ القرآني دون بيان التفاصيل حسب قواعد الدلالة في ألفاظ الكتاب والسنة، وسيشوش هذا على مصادر التلقي عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم، وسيدخل المجتمع في حالة الارتباك، بسبب الاستماع والتداول للصوتيات والأفلام التي لا علاقة لأصحابها بالمعرفة الشرعية.

2-انتحال “الحكواتي” شخصية المفتي:

وهنا تتشوه المعرفة الشرعية في وقت كان ينبغى أن تتنشر عبر نعمة مواقع التواصل، ولكننا حوَّلنا هذه النعمة إلى نقمة بسبب عدم التحري في أمور الدين، إذ من المسلَّم عند العقلاء أن العلم لا يؤخذ إلا من المختصين، فالطب يؤخذ من الطبيب، والهندسة من المهندس وهكذا دواليك، ولكن جرأة بعض الناس على كتاب ربهم وسنة نبيهم، أدى بهم إلى عدم التحري والتأكد في نشر معرفة فاسدة تنسب للشرع، وما هي منه في شيء، وساد “الحكواتية” في الدين بدلا من العلماء، وأصبح العلماء يعانون من أولئك الحكواتية والقصاصين، ولا يدرون كيف يمكن أن يصل علم الدلالة المتناهي في الدقة إلى عامة المسلمين لتحصينهم من الحكواتية، لذلك فإنه من الضروري لعامة المسلمين عدم تداول أي مادة إعلامية شرعية، إلا بعد استشارة جهة علمية ذات اختصاص، حتى لا تكون مساهما في نشر الباطل، وإضلال  الناس بغير علم، ولا ننسى ضرورة التعليم الشرعي للأبناء، وأقل ما يمكن أن يقال: توقَّف عن النشر حتى تتبين الحق، وإلا فأنت لا تدري كم تَـضرّ بالمسلمين، قال ابن عاشر:

             وَيُــوقِـفُ الأُمُـــــــــورَ حَتَّى يَــعْـــلَــــمَــــا… مَــــا اللَّــه فِـــيـــهـنَّ  به قَـــدْ حَـــكَـــمَــــــا

مقالة ذات علاقة بعلم الدلالة: حوار مع أخي (12) هل كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” نفي وإثبات؟! بين الصناعتين.

 

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة 10-6-2016

عمان المحروسة

 

10 thoughts on “ضجة التفريق بين الصوم والصيام…ولزوم ما ليس فيه إلزام…وسع صدرك

  1. مايو 10, 2017 - غير معروف

    فكر جميل نحن بأمس الحاجة له …. بارك الله فيك دكتورنا

  2. مايو 8, 2018 - غير معروف

    وفقكم ربي لما يحب ويرضى ، دكتورنا الحبيب ، أنار الله دربكم ونسأله الإخلاص لنا ولكم.

  3. مايو 18, 2018 - غير معروف

    إنهم شياطين الإنس.
    والأنكى من ذلك لهم تفاسير للقرآن خاصة بهم

  4. مايو 26, 2018 - غير معروف

    وأصبح العلماء يعانون من أولئك الحكواتية والقصاصين،،، ما أجملها من عبارة د. وليد ، بالفعل صُدع رأسي وأنا أناقش بعض الأخوة فيما قاله الحكواتي في التفريق بين الصوم والصيام… وأعجبني إطلاق لفظ الحكواتي عليه ليوافق اسما ورسما ومعنى … شكرا لك أستاذي

  5. أغسطس 19, 2018 - أبو بسام

    بارك الله فيك يا دكتورنا الفاضل وجزاك الله خيرا
    وجعله في الميزان حسناتك أسأل الله تعالى أن يرفع بكم الأمة

  6. أبريل 9, 2019 - sham
  7. مايو 2, 2019 - نزار الشبيلي

    بارك الله فيك وجزاك الله خير

  8. مايو 4, 2019 - غير معروف

    مقال جميل جدا ومقنع بأجوبته جزاكم الله خيرا

  9. مايو 8, 2019 - غير معروف

    جزاك الله خير و بارك الله فيك يا شيخ و نسأل الله عز و جل ان ينفع بك الامة الاسلامية فحقيقةً ما اضطرني الي البحث عن هذا الموضوع هو مقطع فيديو متداول وسائط الاعلام و فيه ما فيه من التبريرات لمعنى و استعمال كلمة الصوم على حد معين و معنى و استعمال كلمة صيام في غير موضع الصوم.. فوجدت الشفاء في كلامك يا دكتور جزاك الله خير

  10. مايو 8, 2019 - قدوره الهواري

    جزاك الله خير و بارك الله فيك يا شيخ و نسأل الله عز و جل ان ينفع بك الامة الاسلامية فحقيقةً ما اضطرني الي البحث عن هذا الموضوع هو مقطع فيديو متداول وسائط الاعلام و فيه ما فيه من التبريرات لمعنى و استعمال كلمة الصوم على حد معين و معنى و استعمال كلمة صيام في غير موضع الصوم.. فوجدت الشفاء في كلامك يا دكتور جزاك الله خير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top