حوار مع أخي ( 24) لماذا لم يتنازع السلف في عدد ركعات التراويح؟

تعددت صلاة التراويح مع الشفع والوتر في السلف بين إحدى عشرة ركعة وثلاث وعشرين، وتسع وثلاثين، ومع ذلك لم يحصل بينهم التنازع الحاصل اليوم في تحديد عدد ركعات التراويح، فما السبب في توافق السلف وتنازع الخلف، في هذا الحوار محاولة لبيان منهج السلف في الفهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

خالد: لماذا يخالف المسلمون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فيصلون التراويح عشرين ركعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لم يزد على إحدى عشرة ركعة، فقد جاء في صحيح البخاري  عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ونحن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصلي ثماني ركعات تراويح، وركعتي شفع، وركعة وتر، فالجميع إحدى عشرة ركعة.

وليد: عمل المجتهد هو جمع الأدلة وليس الإفتاء من حديث واحد، فالحكم الشرعي يظهر بجمع الأدلة لا بدليل واحد، وقد ذهبْتَ أخي خالد إلى حديث واحد، ثم قلت: إن الإحدى عشرة ركعة هي السنة، وقابلت ذلك بالبدعة، وكأنك تزعم أن الزيادة   على إحدى عشرة ركعة بدعة مذمومة في الشرع.

خالد: إذا صح الحديث فهو مذهبي، والحديث صحيح صريح، في عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة.

وليد: جاء في صحيح البخاري أيضا  عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»، فهل يتحقق القيام بإحدى عشرة ركعة؟

خالد: نعم

وليد: هل يتحقق القيام بعشرين ركعة.

خالد:  رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على إحدى عشرة ركعة.

وليد: لو أن أحدا قدم شرابا لجماعة من الناس، وقال لهم:(اشربوا)، فشرب الأول جُرعة، والثاني جُرعتين، والثالث ثلاثا، فهل يُعْتَبر الجميع ممتثلين لأمره بالشرب.

خالد: نعم، يعتبرون طائعين ولو تعددت أنواع شربهم: واحدة، واثنتين، وثلاثا، لأن (اشرب) فعل مطلق يحصل بأفراد عديدة منها الشرب مرة ومرتين وثلاثا.

وليد: مع أن كل واحد شرِب شُربًا مختلفا: جرعة، وجرعتين، وثلاث جرعات، فهل يجوز لمن شرب جُرعة أن ينكر على مَن شرب جُرعتين، أو ينكر على مَن شرب ثلاث جرعات، أم تعتبِـر يا أخ خالد أن الجميع طائع وممتثل للأمر؟

خالد: كلهم امتثل الأمر بالشرب، سواء شرب: مرة، أم مرتين، أم ثلاثا.

وليد: لو قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على قيام رمضان، فقال: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»، فهل الثماني ركعات، والعشرين، والست والثلاثين، تكون من القيام بحسب ما فهمنا من مثال الشرب السابق.

خالد: نعم، ولكنّ فعل النبي صلى الله عليه وسلم قَيـَّـد المطلق بإحدى عشرة ركعة، ونحن مع السنة.

وليد: يعني فهمتَ أن   عمل النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الإحدى عشرة ركعة  أن العمل له مفهوم، يُقيد المطلق وهو القيام، وفي المثال السابق المطلق هو الشُّرب، مع أن الأصوليين يوضحون  أن العمل إذا كان أحد أفراد المطلق مثلَ الشرب مرتين وثلاثا،  فإنه لا يكون قَـيـْدا بعدم جواز الشرب أكثر من اثنتين أو ثلاثا، لأن المفهوم من عوارض الأقوال، لا من عوارض الفعل، فكيف جعلتَ للعمل مفهوما، مع الفعل ليس له منطوق أصلا، فكيف يكون له مفهوم؟!

خالد: أرجو التوضيح.

وليد: يعني الحديث الشريف (من قام رمضان) يدل على القيام في رمضان بصرف النظر عن عدد الركعات، فالقائم بالثماني، أو بالعشرين، أو بالست والثلاثين، فهو في جميع الصور هذه قائم طائع لله، كما قلنا فيمن شربوا مرة واثنتين وثلاثا، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة هي بعض القيام المطلق، الذي يكون بالثماني وبالعشرين وبالست والثلاثين، ومن زاد فهو خير، لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) سورة الزلزلة.

خالد: هاتِ دليلا لما تقول من فهم السلف.

وليد: فهم عمر رضي الله عنه أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى عشرة ركعة هو بعض أفراد القيام، وأن القيام يحصل بست، وبثمان، وبعشرين  وهكذا، لأن الفعل مجردا لا صيغة قولية فيه، فكيف يكون له مفهوم كما حددتَ  أنت بعدم الزيادة على عدد الركعات في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل فهم عمر والصحابة وأهل المدينة في عهد السلف أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الإحدى عشرة ركعة، لا يفهم منها منع  الزيادة، كما فهمت أنت عدم تعارض شرب المرة والمرتين والثلاث في مثال الشرب السابق، وهذا فهم الأمة للزيادة، وداومت على صلاتها عشرين، بل زادت على العشرين، فصلاها أهل المدينة في القرون المفضلة ستا وثلاثين، لأن الفعل لا صيغة لفظية فيه، ولا مفهوم له،  فلا يجوز أن يُفهم من صلاة الإحدى عشرة ركعة منعُ صلاة الثلاث والعشرين، والتسع والثلاثين 

خالد: يعني أن الفعل (قام) يعمُّ كل قيام بدلالة منطوقه ولفظه، فلا يصح أن أَمنعَ الزيادة على إحدى عشرة ركعة، بحجة فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن دلالة المنطوق في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قام رمضان) لا يجوز أن تقيد بالإحدى عشْرة ركعة، لأن ذلك حَجْر على مطلقات النصوص الشرعية وعموماتها .

وليد: إن العمل عندما يكون واحدا من أفراد النص المطلق مثل مجرد عمل الشرب ليس له مفهوم أصلا، لأن أداء الفعل لا منطوق له ولا مفهوم، فلا يقيِّد   عموم المطلق في قوله عليه الصلاة وسلام  (من قام رمضان)، بل يبقى المطلق مفتوحا يستوعب أفرادا كثيرين بزيادة الشرب أربع وخمس وست إلخ.

خالد: واضح أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى عشرة ركعة، لا يفيد منع الزيادة، كما هو الحال الذي مثلنا به في الشرب، وهو أن الشرب مهما تعدد وكثر فإن الجرعتين لا تعارض الثنتين ولا الثلاث وهكذا.

وليد: لذلك نجد أن عمر فهم أن العشرين لا تعارض الإحدى عشرة، وكذلك فهم السلف في المدينة أن الست والثلاثين لا تعارض العشرين ولا الإحدى عشرة،  فلم يتنازعوا بينهم في عدد الركعات لأنهم أعلم بنصوص الشرع وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تتعارض أدلة الشريعة في قلوبهم، بل رأوا أدلة الشرع جميعا ككلمة واحدة، لا ترى فيها عِوَجا ولا أمْتا.

خالد: أريد أن أفهم دلالة الفعل وعلاقته مع النص،  لأنني توهمت أن للفعل مفهوما، ففهمت أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة تمنع الزيادة، وإذا بي أفاجأ بأن الفعل لا مفهوم له أصلا، لأنه ليس لفظا منطوقا فكيف يكون له مفهوم؟! وهذا هو الذي أدى إلى الَّلبس عندي، وقد فهمتُ فعل عمر رضي الله عنه وأهل المدينة أن الفعل ليس له مفهوم يخصص المنطوق عندما يكون الفعل أحد أفراد المطلق أو العام.

وليد: نعم لذلك كان علم أصول الفقه مركوزا في جِبِلَّة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، حتى جاء أمير المؤمنين في الأصول وهو الإمام الشافعي فدوَّن علم الأصول كما دوّن سيبويه النحو، ونص على ذلك في المراقي:

13-أول من ألفه في الكتب   محمد ابن شافع المطَّلِبي

14-وغيره كان له سليقه    مثل الذي للعرب من خليقه

خالد: الخلاصة أن من صلى إحدى عشرة ركعة فقد قام رمضان، ومن صلى ثلاثا وعشرين فقد قام رمضان، ومن اقتدى بأهل المدينة في القرون المفضلة فصلى ستا وثلاثين، فقد قام رمضان، والناس متفاوتون بحسب أعمالهم في القيام، فمن كثر عمله كَثُر أجره، وبناء على عموم المطلق، علينا أن نسارع كل ما نستطيع لزيادة العمل الصالح، لأننا أمام نص مطلق من قام رمضان، ويحصل لنا من الأجر بكثرة العمل لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) الزلزلة.

وليد: يجب أن لا يستنزفنا الآخرون في الأيام الفاضلة إلى جدال لا فائدة منه، ولا موجب شرعي له، بل نتوجه إلى العمل الصالح، ونهتم بقضايانا الكبرى، التي تؤرق المسلمين، ونلاحظ أن سلفنا الصالح يجمعون ولا يفرقون، كما هو الحال في صلاتهم للتراويح بأعداد مختلفة دون تنازع.

خالد: بم أجيب من زعم أن الزيادة على العشرين بدعة لأنه لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليد: قل  له: أليست العشرين من أفراد قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) الزلزلة، وتندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان).

خالد: سيقول أحدهم: قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، والعشرون لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وليد: أليست العشرين من أمرنا يعني يشملها منطوق وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قام رمضان)، وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) الزلزلة،  فكيف يصبح ما كان من أمْرِنا بدعة، وهو مؤيد بفعل الأمة والسلف الصالح واللغة والأصول.

خالد: يعنى أن مقولة لم يفعله رسول الله صلى عليه وسلم هنا عارضت النصوص الشرعية وردت عمومات النصوص ومطلقاتها، ويجب أن نحذَر من رد نصوص الكتاب والسنة بهذه المقولة، وفي علم أصول الفقه أهمية كبرى في الوقاية من سوء الفهم في نصوص الكتاب والسنة، والوقوع في حـَمَـأة الغلو في تبديع المسلمين، دون موجب شرعي.

وليد: نعم أخي العزيز خالد، وعلم أصول الفقه يمثل قواعد جامعة للأمة على الفهم العلمي في الكتاب والسنة، بدلا من الذوق والشعور النفسي، والله تعالى هو الموفق.

خالد: رمضان كريم.

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عميد كلية الفقه المالكي

3 رمضان 1439

18-5-2018

عمان المحروسة

9 thoughts on “حوار مع أخي ( 24) لماذا لم يتنازع السلف في عدد ركعات التراويح؟

  1. مايو 19, 2018 - راشد المومني

    جزاك الله كل خير دكتور

  2. مايو 21, 2018 - غير معروف

    جزاك الله خير دكتور

    و نفع بك الأمة و سدد خطاك نحو فعل الخير :

  3. أبريل 25, 2021 - غير معروف

    نفع الله بكم البلاد والعباد دكتورنا الحبيب ورفع قدرك بالدنيا والآخرة

  4. أبريل 26, 2021 - غير معروف

    رائع

  5. أبريل 19, 2022 - غير معروف

    ما شاء الله.. زادكم الله تعالى توفيقا

  6. أبريل 20, 2022 - غير معروف

    نفع الله بكم دكتورنا

  7. مارس 29, 2023 - غير معروف

    جزاكم الله خيراً شيخنا وحبيبنا د. وليد شاويش

  8. مارس 30, 2023 - سيف الإسلام

    أكرمك الله دكتورنا الحبيب

  9. مارس 31, 2023 - Aarab Larbi

    جزاك الله خيرا دكتور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top