حوار معي أخي (11) طرق الاجتهاد والاستنباط حكم أكل لحوم السباع والحمر الأهلية

تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي خبر العثور على مجزرة تقوم بذبح الحمير وبيع لحومها للمطاعم التي تستخدمها في إعداد الكباب، وكالعادة تم إحياء فتاوى قديمة تزعم أن لحوم الحمر الأهلية مكروهة في الفقه المالكي، مع أن المعتمد في المذهب هو تحريمها وهو المفتى به، ولا يصح تتبع الأقوال الشاذة في المذاهب، خصوصا أن النص النبوي شاهد بتحريم الحمر الأهلية على ما سيأتي في الحوار، وعلى كل حال شعر الكثير من المسلمين بالاستياء تجاه مجزرة الحمير، ومع ذلك كان لذلك الاكتشاف قيمة علمية، يمكن أن تفسِّر لنا حالة بعض الإعلاميين المصريين الذين طعنوا في الدين وأساءوا إليه، فإن تحليلاتهم الحِمارية وما يقدمونه من رأي يسحمِرون به جمهورهم، يعطي إشارة قوية على تأثرهم بنوع اللحم الذي أكلوه، وربما أكلوه منذ وقت طويل، ووصلوا إلى مرحلة التجَحْشُن الذاتي المستقل، الذي وصل إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من أكل الحمير.

وقد رأيت أن أبرِّيء السادة المالكية مما نسب إليهم من إباحة الحمير في المعتمد من مذهبهم، وتذكرت جملة من الحوارات العلمية مع طلاب مادة مناهج البحث في الدراسات الفقهية والقانونية، حول منهجية الاستدلال عند الفقهاء وكان هذا الموضوع مثالا على الاستدلال، وكان الحوار الآتي:

بداية الترحيب والسلام

وليد: ما حكم أكل لحوم السباع؟

خالد: حرام، فعَن أبي ثَعْلَبَة رضي الله عنه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن أكل كل ذِي نابٍ من السبَاع. متفق عليه.

وليد: نعم الحديث صحيح، ولكن هل معنى الحديث النهي عن أكل ما يأكله السبُع، أم عن أن نأكل السبُع، وعلى سبيل التوضيح إذا قلت لك أعجبني لَــعِبك، هل أنت لاعب أم ملعوب به، وإذا قلت لك: أعجبني أكلك هل أنت آكِل، أم مأكول؟

خالد: خلال الأمثلة المذكورة فإنني أكون آكلا، لا مأكولا، ولاعبا لا ملعوبا به.

وليد: إذن، الأسد في الحديث هو الآكل، والنهي في الحديث هو عن أكل ما يأكله السبُع، أي النهي هو عن أكل البهيمة التي نهشها السبُع، لا النهي عن أكل السبُع نفسه، يعني أن المصدر “أكْل” الوارد في الحديث هو مصدر أضيف إلى الفاعل وهو السبُع، وأنه هو الآكل.

خالد: أليس يحتمل أن يكون المصدر “أكْل” الوارد في الحديث مضافا إلى المفعول فيكون السبُع مأكولا، فلماذا ذهبت د. وليد إلى الاحتمال الآخر، وهو أن السبُع آكل مع احتمال الحديث أن يكون السبُع مأكولا.

وليد: بالتأكيد لا يجوز الترجيح بلا مرجِّح، ولا بدَّ من مرجحات شرعية لترجِّح هل السبُع في الحديث مأكول فيحرم، أم أنه آكل فتحرم أكِيلة السبُع، وهي التي نهشها السبُع؟

خالد: ما هذه المرجحات التي ترجح أن المصدر “أكْل” في الحديث مضاف إلى الفاعل، ويعني أن السبُع آكل، والنهي ليس عن أكله، بل عن أكْل البهيمة التي نهشها.

وليد: المرجح الأول: قوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). الآية 145 من سورة الأنعام، وسورة الأنعام مكية باتفاق، وقد حصرت المحرَّمات من الطعام، ولم تذكر فيها السباع، فهذا يرجح أن المراد في الحديث الشريف، أن السباع آكلة لتَــتَّسق مع الآية، كما في الأمثلة التي ذكرتها لك، وهي أعجبني أكلك، ولعبك، وأنت هنا آكِل لا مأكول، ولاعِب لا ملعوب به.

خالد: هذا المرجح الأول فما المرجح الثاني؟

وليد: المرجح الثاني:قوله تعالى إ(ِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، سورة البقرة، الآية (173)، وسورة البقرة مدنية توكد مضمون آية سورة الأنعام المكية، وليس في كليهما ذكر لتحريم السباع على المسلمين، وعليه يُــؤَوَّل الحديث بما يتفق مع الآيتين، وأيضا هناك مرجح ثالث، وقوي.

خالد: وما المرجح الثالث؟

وليد: المرجح الثالث: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السبُع إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) سورة المائدة، جزء الآية 3، وسورة المائدة من أواخر السور التي أنزلت، وهي تدل على أن السبُع آكل، لقوله تعالى: وما أكل السبُعُ، برفع السبُع على أنه فاعل، ألا تكفيك أخي خالد هذه الآيات لحمل السباع في الحديث الشريف على أن السبُع آكل، لا مأكول، وعليه يحمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- على النهي عن أكل البهيمة التي نهشها السبُع، لا عن أكل السبُع نفسه.

خالد: إذا كانت هذه الآيات قد حصرت المطعومات المحرمة، فماذا عن تحريم الحمر الأهلية المستأنسة، فكيف تحرم مع أن هذه الآيات حاصرة للمحرم من المطعومات.

وليد: علينا أن نعلم أن الآيات وإن حصرت المطعومات، فإنه لا يوجد هناك حصر مطلق، فقول الله تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم: إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)، سورة فاطر، حصر النبي صلى الله عليه وسلم في النذارة، وفي آية أخرى حصرته بشيء آخر، وهو البشرية، ولا يمنع الحصر في قوله تعالى: إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ، أنه ليس بشرا فقال تعال: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، سورة الكهف، جزء الآية: 110، فالحصر بالنذير والنَّذارة، من حيث إن هذا واجبه، فهو ليس عليهم بمسيطر ولا وكيلا، والحصر من حيث هذه الجهة،لا يتعارض مع قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، لأن الحصر هنا من جهة مختلفة، وهي جهة بشريته، وأنه يتميز بالوحي، والتأكيد على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب الحصر، لا يتنافى مع التأكيد على مهمته صلى الله عليه وسلم وهي الإنذار، وليس مسؤولا عن أعمالهم، ومن هنا لا يعني الحصر في المحرمات من المطعومات، عدم تحريم محرمات أخرى ثبتت بالسنة أو بآيات أخَرَ، لأنه لا يوجد حصر مطلق في التحريم بدليل تحريم مطعومات أخرى بأدلة شرعية أخرى، ومع احتمال دليل النهي عن أكل السباع بحيث يمكن أن تكون آكلة أو مأكولة لم تعُد محتمِلة إذا تم تفسيرها على ضوء النصوص القرآنية السابقة في سورة الأنعام، والبقرة، والمائدة، وأصبح اعتبار السبع آكلا راجحا على اعتباره مأكولا.

خالد: ما دليل تحريم الحمر الأهلية؟

وليد: عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية»، متفق عليه (أخرجه البخاري ومسلم)، والحديث صحيح وهو كما أكدتُ سابقا لا يتنافى الحصر الذي حصرته الآيات الكريمة، السابقة ويعزز ذلك القرآن الكريم وهو أن الحمر ليست للأكل، وإنما للركوب والزينة.

خالد: وما هذه الآية؟

وليد: قال تعالى في سورة النحل: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8)، لاحظ في الآيات الكريمة السابقة أن الله تعالى امتن على عباده في الأنعام: وهي البقر، والإبل، والغنم، بنِعم أعلاها نعمة الأكل، وفي معرض الامتنان وتعظيمه، قال تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)، وهذا في معرض ذكر النعمة فقد علل نعمة الخلق في هذه الدواب بأنها للركوب والزينة، ولو كانت فيها نعمة الطعام الكبرى لكانت أجدر أن تذكر وتقدم على نعمة الركوب والزينة، فلما أضربت الآية عن نعمة الطعام، مع هذه المقتضيات دل على أن النعمة العليا فيها ليس الأكل بل الركوب، ولو كانت فيها نعمة الأكل لذكرها كما ذكرها في الأنعام.

خالد: واضح مناهج المجتهدين أنهم يجمعون بين الأدلة وأن العبرة في الاجتهاد هو من يجمع بين الأدلة الشرعية ويؤلف بينها، ولا يختطف دليلا ويهجر أخرى، حتى أصبحت تشيع بيننا مقولة فلان عنده دليل، وكأنه بذلك أصاب الحق.

وليد: هذا نموذج عملي على كيفية تداول المجتهدين للأدلة، وعمق نظرهم واستقصائهم، خلاف ما نرى في أيامنا هذه من يستمسك بدليل ويترك أدلة، ولا يفهم مدارك العلماء، فتراه يرمي كبار أئمة السلف كالأئمة الأربعة الكبار، بأنهم لم بتبعوا الدليل، أو أنه لم يصلهم، كاعتذار سريع وجاهز كلما عجز عن فهم اجتهادات أئمة السنة رحمهم الله تعالى.

الخلاصة: مذهب المالكية هو إباحة لحوم السباع مع الكراهة، وحرمة لحوم الحمر الأهلية.

س: إذا حرم الله تعالى أكل الربا، والأكل هو أقوى حاجات الإنسان، فما ظنك بحكم الربا فيما هو دون الأكل كاللباس، والسيارة، والمنزل؟ هل الحاجات الأدْوَن من الأكل أولى بالتحريم أم لا؟

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة

12/6/2015

1 thought on “حوار معي أخي (11) طرق الاجتهاد والاستنباط حكم أكل لحوم السباع والحمر الأهلية

  1. يونيو 15, 2016 - ismail ali

    ما شاء الله
    بوركت سيد ابا انس
    فتح الله عليك فتوح العارفين به
    ورحم والديك

    تلميذك أبا علي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top