تبرير الجريمة بسبب الفقر هي الجبرية المعاصرة في الفكر اللاديني

تمهيد: تبرير الجريمة بسبب الفقر:

كثر في الآونة الأخيرة تبرير بعض الجرائم بناء على الحالة الاقتصادية الصعبة، التي تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية في العديد من البلدان، وظهرت حالات من التعاطف مع المجرمين، بناء على أن الفقر هو العامل الحاسم في ارتكاب الجريمة،  وقد بلغ الأسف أشده أن تجد من يبرر لعمليات السطو المسلح على المصارف، بذريعة الغلاء والفقر، وتوفير غطاء مشروع لها، كما حصل في بعض عمليات الانتحار حرقا، وبدلا من مكافحة الجريمة والظلم، أصبحتَ ترى من يسوغ تلك الجريمة ويتعلل لها بالظروف، مما يعني التشجيع على الجريمة من حيث لا ندري، مما زاد الطين بِلَّة والمريض علة.

أولا : التفسير اللاديني للسلوك الإنساني:

 غالبا ما يكون التفسير المادي للسلوك الإنساني بناء على عوامل اقتصادية كالفقر، واعتقاد أن الفقر هو العامل الحاسم والمهيمن في صناعة الجريمة، ومثل ذلك أيضا تبرير الانتحار بحرق النفس حيث غاب الحديث عن المسؤولية الشرعية عن الجريمة، في غمرة الجبرية في الفكر اللاديني ضمن ثقافة العولمة الغربية، التي تفسر السلوك الإنساني على أسباب مادية بحتة، اقتصادية، بيولوجية، جنسية، وعليه فإن الإنسان أسير بيئته، وهو سن في دولاب، وتسود هنا ثقافة القطيع، مع رفع العقيرة بأغاني الحرية، على نحو يظهر تناقضات الفكر اللاديني وأنه حالة عشوائية لا تعرف الاستقرار، مع الحديث عن كرامة الإنسان مع اعتقاد أن الإنسان بعد موته هو حثالة كيميائية ونفايات بيولوجية، دون جزاء على الجريمة بعد الموت.

ثانيا: الغنى والفقر عوامل مساعدة على الجريمة لا حاسمة في حصولها:

لا شك أن للفقر تأثيرا على الإنسان ودفعه للجريمة، وكذلك للغنى أثر في الدفع لارتكاب الجريمة بسبب الاستكبار، كما يحصل الآن من اعتداء الدول الغنية على الدول الضعيفة لنهب الثروة، وصدق الله تعالى إذ يقول: كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) سورة العلق، وجرائم الأغنياء وفسادهم المالي أشد من جرائم الفقراء، فالقول بأن سبب الجريمة هو الفقر، بمعنى أن الفقر حاسم في صنع الجريمة هو تقليد لثقافة العولمة، بل إن الفقر هو نتاج جرائم الأغنياء في احتكار رأس المال، وأكل الربا، والهمينة على التقنين والتشريع والحرب، لصالح رأس المال، فالفقر واقع ناتج عن جرائم الأغنياء في حق الفقراء.

ثالثا: الاختيار الإنساني هو الحاسم وليس العوامل المساعدة:

1-العقيدة الإسلامية تقرر الاختيار وتنفي الإجبار:

الإسلام يقرر أن الاختيار الإنساني هو الحاسم في ارتكاب الجريمة، وأن الإنسان مسؤول عن كل الاختيارات، وأبطلت الشريعة أي اعتذار بالبيئة مهما كانت، قال تعالى: أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) الأعراف،   ولا شك أن العامل الحاسم هو  اختيار العباد في معتقدهم وعملهم، وأنهم محاسبون على جرائمهم بصرف النظر عن البيئة، مع العلم بأن الغنى والفقر عوامل مساعدة على العدوان، وليست حاسمة في صناعته.

2-أي الفريقين أحق بالحرية إن كنتم تعلمون:

ومما جاء في نفي إكراه البيئة وجبريتها قوله تعالى:  إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) النساء، فالآية الكريمة تقرر مبدأ عقديا، وهو إثبات الاختيار في السلوك الإنساني، ونفي الجبرية، فأي الفريقين أحق بالحرية الإسلام، الذي أثبت الاختيار، أم الجبرية في الفكر اللاديني، التي تجعل الإنسان في سلوكه أسيرا للجنس والاقتصاد والجينات.

رابعا: الجبرية في الفكر اللاديني هي تبرير للفساد في الأرض:

إن الفكر اللاديني الجبري الذي يردُّ السلوك الإنساني إلى عوامل مادية بحتة، يجعل من الجريمة إكراها على نحو ما يحدث في الكوارث الطبيعية، مما يعني التسليم بالفقر المساعد على الجريمة على أنه كارثة طبيعية، بناء ما ورثوه عن أسلافهم من الجبرية الأولى، في قول الله تعالى حكاية عنهم: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) يس، فبحسب الفكر اللاديني الجبري، إن الفقر هو سبب الجريمة، والفقر أمر قدري إجباري، يعني أن الجريمة إجبارية كالزلازل والبراكين، وهو نفي للاختيار الذي هو شرط التكليف والحساب في الآخرة.

خامسا: العقيدة الإسلامية زاوية الإصلاح والبناء:

إن الإسلام ينفي الجبرية في الفكر والسلوك الإنساني، يعني أنه يعلن المسؤولية عن الاختيار والحساب في الدنيا والآخرة، ولا عذر بالبيئة، ولا يقع في تناقضات الفكر اللاديني الفلسفية التي تفرض الجبرية ثم تأتي القانونية لتعاقب على الجبرية، فالعقيدة الإسلامية منسجمة تمام الانسجام مع الشريعة، مع المحاسبة في اليوم الآخر على أساس الاختيار، وهي تنبذ هيمنة البيئة على السلوك، على النحو الموجود في ثقافة قطيع البيئة في الفكر المادي.

سادسا: تسلل الجبرية للإعلام عبر ثقافة العولمة:

من الخطورة بمكان أن العولمة الثقافية قادمة بنموذج كلي كبير في الفلسفة والإعلام والقانون وعلم النفس، وهي متحكمة في الإعلام، ويأتي الإعلام صدى لتلك الفلسفة المادية في السلوك الإنساني، على أساس الجبرية الاقتصادية والبيولوجية والجنسية، وتصنع لنا نحن المسلمين نماذج في اختبارات السلوك والتحليل النفسي في الغرب، لمسلمين يختلفون تماما في عقيدتهم وسلوكهم عن النموذج الدنيوي المادي الجبري الأروبي، ولا تقبل الشريعة أن تبرر الجريمة  على أنها نتاج طبيعي جبري بسبب الفقر، والفقر جبري بسبب فساد الأغنياء، وفساد الأغنياء جبري أيضا، على يد شيوخ الطريقة الرأسمالية (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ)، يعني أن تصرفات الإنسان لم تعد اختيارية بل مثل ارتعاشة المحموم، خارجة عن الإرادة.

سابعا: ما سبب تسلل الجبرية الغربية إلينا:

1-غياب الكلي الإسلامي في مواجهة الكلي اللاديني:

أ-تحذير للفضاء الإعلامي من تبرير الجريمة:

تستمع لإذاعاتنا في الصباح عن الوضع الاقتصادي المتراجع للوراء، ويتحدث عن الجريمة بناء على أنها نتاج طبيعي للفقر، وتحولت بعض مصادر الإعلام من محذر من الجريمة إلى  مسوغ للجريمة نفسها، ويمنح صك الغفران بالاعتذار للمجرم بسبب الوضع الاقتصادي، يحدث ذلك  مع عدم وجود نموذج معرفي إسلامي كلي يقف في مواجهة العولمة الجبرية.

ب- الكُلي مقابل الكلي:

 هذا النموذج الإسلامي الكلي يجمع بشكل متكامل نموذج الاقتصاد مقابل الاقتصاد والإعلام مقابل الإعلام، وعلم النفس عندنا مقابل علم النفس عندهم، علم النفس القادر على بناء نماذج في الاختبار والقياس والتحليل التي تظهر انعكاسا لعقيدتنا وشريعتنا الخالدة،  ولن يكفي الجزئي الإسلامي مقابل الجزئي الغربي اللاديني المرتب ضمن كليات الفكر اللاديني، لذلك علينا أن نقرع الكلي بالكلي والجزئي بالجزئي، ونموذج الفرد والجماعة والدولة عندنا في مقابلة نموذج الفرد والجماعة والدولة في الفكر اللاديني.

2-العيش في شقوق الزمن وثقوب التاريخ:

أ-السلف حَرسُواعقيدة الاختيار والمسؤولية عن العمل:

إن النموذج الإسلامي الذي ينبغي أن يقام اليوم، هو ذاته من حيث المبدأ الذي أقامه الصحابة وأئمة السلف في مستجدات شُبَه الاعتقاد في زمانهم، حيث ظهرت طائفة الجبرية ونُفاة القدر، فقاموا بحماية عقيدة الاختيار والقدر، لأن الحساب الأخروي مبني على الاختيار، فجاءت مقولات السلف كأحمد والشافعي ومالك وأبي حنفية وغيرهم من أئمة السلف، ردًّا شافيا على شبه الجبرية كالجهم بن صفوان وغيره.

ب-المطلوب هو العيش في الواقع:

 وبينما يقبع أوجست كونت كبير جبرية هذا الزمان، في ثنايا كتب الجامعات وبعض كلياتها آمنا مطئمنا، نجد أن بعض الأشياخ اليوم يذهب لا ستحضار شبح  الجهم بن الصفوان ليقوم بعملية إعدام رجل ميت، بينما يتمشى أوجست كونت آمنا مطئمنا في مكتبات المسلمين وأروقتهم الجامعية، وفي نشراتهم الإخبارية وتحليلاتهم السياسية، وخلاصة الأمر لا بد من الاهتمام بالتدين المعرفي، وعدم الاقتصار على الجانب الوعظي، فلا بد من تكاملهما، ولا بد من بناء النموذج الإسلامي الكلي المتكامل في جميع فروع المعرفة، والعيش في مشكلات الواقع، لا في مشكلات التاريخ التي تم حسمها.

مقالات في التدين المعرفي:

أسئلة: الفقر في الأردن بين الظلم الاجتماعي والطَّـــرَم المعرفي

التدين في الفضاء العام: العجز في الميزان التجاري تلك المعصية المنسية

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عميد كلية الفقه المالكي

عمان المحروسة

9-جمادى الأولى-1439

26-1-2018

2 thoughts on “تبرير الجريمة بسبب الفقر هي الجبرية المعاصرة في الفكر اللاديني

  1. يناير 30, 2018 - غير معروف

    سلمت الايادي دكتورنا

  2. فبراير 1, 2019 - محمد بني خالد

    جزاك الله خير الجزاء دكتور.. كلام رائع لتصحيح المفاهيم المغلوطة..
    زادك الله بالخير والفهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top