تأثير الواقع وتحكُّمُه في صناعة الفتوى سريعة الذوبان

تظهر فتاوى وأفكار منسوبة للشرع في مراحل معينة ثم تختفي، مما يستدعي بحثا وتساؤلا، وفيما يأتي توضيح شيء من ذلك.

أولا: الاشتراكية والداروينية والرأسمالية:

ظهرت فتاوى وأراء فكرية على أنها إسلامية فترة من الزمن، فمثلا ظهرت نظرية دارون في التطور، فزعم بعض المسلمين أن هذا موجود في القرآن في قوله تعالى: (خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) نوح، 10، ظهرت الاشتراكية فظهرت كتب بعنوان اشتراكية الإسلام، والإسلام والاشتراكية، وأسقطت الاشتراكية على بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات 9، ومَن كانت ميولهم رأسمالية قالوا: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) الزخرف، 32.

وقد كانت لهذه الفتاوى الصّولة والجولة في وقتها، وعُدّت من نوادر الزمان في الفكر، ولكن عفا عليها الزمن اليوم، وأصبحت الاشتراكية شيئا من التاريخ، أما الداروينية فهي في نزعها الأخير بسبب التقدم الواسع في علم الجِينات، أما الرأسمالية المتوحشة فحسبك ما تعاني منه من أزمات خانقة، وحالات الصرع المزمنة التي تظهر عليها بين الحين والآخر، وقد اختفى الإسلام الاشتراكي والدارويني وبقي الإسلام-بلطف من الله- بمناهجه الاستدلالية العلمية المنضبطة عصِيا على الاختراق، وتحولت تلك الأفكار والفتاوى المندثرة إلى وجهة نظر شخصية ولا تعبر عن الإسلام في شيء.

ثانيا: ظاهرية النص (تحريم التصوير نموذجا):

مرت فترة زمنية قريبة ترى حرمة التصوير الشمسي (الفوتوغرافي) بصرف النظر عن المادة المصوَّرة، وذلك للأحاديث الشريفة الواردة في النهي عن التصوير، وحَرم التصوير الشمسي بحسب رأي بعض الفضلاء من أهل العلم وأجازوا التصوير (الفوتوغرافي)  كالميتة للمضطر للوثائق الرسمية التي لا غنى عنها، وكان هذا التحريم حاضرا بقوة في ذهن المسلم، ودار حوله جدل واسع في المساجد ومجالس العلم، بالرغم من شيوع التصوير التلفزيوني، وظهور المشايخ الذين حرموا التصوير بشكل متكرر على شاشات التلفاز.

ولكن بعد انتشار وسائل التصوير بالهواتف، تلاشى صوت التحريم، ولم يعد الأمر محلّ انتشار وحوار، وفي الوقت نفسه لم تظهر أي مراجعات علمية للمحرِّمين للتصوير الشمسي بل بقيت على حالها، ولم يَعُد المتبَّنون لتحريم التصوير يرددون التحريم كما كانوا يفعلون سابقا، بل أصبحوا من المصورين (سِلْفي) كغيرهم من المصورين الذين عدُّوهم سابقا من أشد الناس عذابا يوم القيامة، وهذا يستدعي تساؤلات مهمة لصيانة الحكم الشرعي من أن يصبح تَبَعا للواقع، وفيما يأتي هذه التساؤلات.

ثالثا: تساؤلات لا بد منها:

1-هل يلحق التصوير الشمسي بتحريم التلفاز في مرحلة ما عند بداية ظهوره، ثم اللواقط (دِش) التي كان من إنكار المنكر في وقت ما أن تُصطاد بالحجارة من فوق أسطح المنازل، ثم بعد ذلك تختفي فتاوى التحريم وتتلاشى، ويصبح الأمر حلالا عرفا.

2-هل كان هناك دراسة علمية في تحريم التصوير التي تتجاوز ظاهر النص وبادي النظر فيه، إلى تحقيق مناط التحريم في التصوير المحرم في الحديث والتمييز بينه وبين التصوير الشمسي في المعنى، وأن التصوير الشمسي ما هو إلا مشترك لفظي مع التصوير المحرم في الحديث الشريف، وأن الظاهرية النصية المجردة عن أصول الاستدلال وقعت في حمل اللفظ على الشرعي على غير معناه بسبب الوقوف على ظاهر النص.

3- إذا كانت هناك سوابق من الفتاوى من هذا النوع، كتحريم التلفاز واللواقط، والتصوير الشمسي، دون تحقيق مناط التحريم شرعا على النحو المعروف في تحقيق المناط في أصول الفقه، بل كان التحريم بمجرد الاشتراك اللفظي في كلمة تصوير، فما الذي يمنع أننا الآن تحت سطوة فتاوى من نفس الطراز، وهَبَّة من هبَّات التحريم أو التحليل، ونخوة فقهية عربية، أليس ذلك يؤدي إلى فقدان الثقة بالإفتاء، وأنه بيان عن الشرع، أم أننا بحاجة فعلا في هذا الوقت إلى حماية الإفتاء الشرعي في وقت اقتحم ساحة الإفتاء من لا يحسنه، وذلك بإعلاء البناء الأصولي للفتوى حتى لا تقع في فخ الواقع.

4-أليس الأجدى بنا السؤال عن المنهج الأصولي التأصيلي التعليلي التدليلي التمثيلي للفتوى أولا، وأنه  هو النموذج الرفيع لحماية الفتوى الشرعية من التشويه، وأن لا تكون حسب الرأي العام،  ومكانها برنامج ما يطلبه المشاهدون، أكثر منها جدارة ببرنامج الإفتاء الذي يجب تقديره شرعا، لأنه بيان شرعي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الرأي العام أن ينظر إلى الفتوى الشرعية على أنها قيمة علمية، تنفع المجتمع وتحميه.

5-أليس المنهج الأصولي الفقهي  في البحث العلمي  لبيان الشرع، هو حماية لمنصب الفتوى من الاختراق للقوى السياسية والحزبية والجماعية والفئوية المتصارعة، لتوظيف الفتوى الشرعية لخدمة أهداف خاصة؟

5- إذا كانت أنواع الحكم الشرعي محدودة (حرام، مكروه، مباح، سنة، فرض، مانع، سبب شرط، صحيح، فاسد، باطل، رخصة، عزيمة) ويستطيع أن يحفظها طفل قبل دخول المدرسة، فما الفرق بين قول حرام من قِبل طفل، وحرام من قبل عالم نحرير يمارس التأصيل والتقعيد الشرعي؟ أليس المطلوب هو التأصيل والتقعيد الفقهي، وليس الفتوى مجرّدة  ومجتزأة  على دليل معين من السنة  دون النصوص الأخرى،  هو السبب في حالة الاضطراب في الفتوى التي نعيشها، بحيث أصبحت بعض الفتاوى هي علامات وخصائص: لجماعات أو أحزاب معينة، وليست من علامات الشريعة الإسلامية.

6- كيف يمكن للفتوى أن تخرج من أَسْر الواقع وتـَحكُّمِه فيها، بدلا من أن تكون الفتوى حاكمة على الواقع ومصلِحة له، مع العلم بأن الفتوى تأخذ الواقع بعين الاعتبار، لكنها ليست تابعة له، بل هو تابع لها.

7-أليس الغلاة لهم فتاواهم التي لا يخفى فيها تأثرهم بالواقع الذي عاشوه في التهميش والإقصاء والتعذيب،  في صياغة فتاوى ارتدت على المسلمين بالتكفير وإهدار الدماء، وفي الوقت نفسه، أليست هناك تفسيرات شاذة للدين أنتجتها قوى الإلحاد والتحلل من النصوص الشرعية، وتم توظيفها على أنها قراءة معاصرة للقرآن الكريم، لصناعة مقاربات عشوائية بين الإسلام والثقافة اللادينية الأوروبية المهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا، أليس كلاهما  (الغلو والإلحاد) أسيرين للواقع؟! وتم تحريف الشريعة تحت تأثير ضغط الواقع، من قبل الملاحدة الجفاة، والمتدينين الغلاة.

8-لماذا  لا يتم ضبط الفتوى عبر المعايير الشرعية لبناء الحكم الشرعي، وفق شروط الاجتهاد في علم الأصول، وأن يكون السؤال عن الهيئات العلمية التي هي مسؤولة عن الفتوى، وأن تكون الفتاوى ذات مرجعية بحثية رصينة، يشار إليها في مرجعية الفتوى، في حال لم تكن الفتوى وفق المعتمَد في المدارس الفقهية السنية الأربع المجمع عليها من قِبل الأمة، خصوصا في المسائل المعاصرة التي تحتاج إلى تجديد النظر فيها؟.

9- ما الذي يُدرِينا اليوم أننا نعيش تحت تأثير منخفض فتاوى موسمي، ما يلبث أن ينقشع ويتبعه منخفض آخر، كمنخفضات الفتاوى السابقة التي تم ذكرها أعلاه، وأننا الآن أسرى لحالة من الآراء الشخصية الفردية في الدين، وستمر كما مر غيرها من الفتاوى.

10-أليست مدارس فقه السلف الأربع قادرة على وضع حد للفتاوى الموسمية التي تعبر عن رأي أفراد لا يقدرون عِلميا على مكافأة المدارس الأربع بوصفها اجتهادات السلف الجماعية، المسنَدة رواية ودِراية، مع العلم بأن هذا لا يعني حَجْرا على المتأهلين للنظر فهم أعلم مني بما أقول، وسيبقى العلماء  في كل زمن هم منارات الهدى للمستهدين بالكتاب والسنة.

للمزيد في بيان حكم التصوير الشمسي (الفوتوغرافي): حوار مع أخي (14) هل التصوير حرام؟!

الطريق إلى السُّنة إجباري

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

عمّان المحروسة

 5-2-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top