بين عبودية الصَّنم وصَنَمِيـَّـة العَبــْـــد

ملخَّص

1-ما القدْر المشترك بين أن يصنع الإنسان صنما يعبده من دون الله، ثم يفتري على الله والصنم قول الحلال والحرام، وبين إنسان كسر الصنم الذي صنعه بيده وقال: أنا الصنم اليوم، إليَّ مرجع التشريع والحكم، أحكم كما أشاء حلالا وحراما، وهذه هي حريتي، ولم أعُد بحاجة إلى صنع الصنم وسيلة لما أريد، فأنا اليوم الصنم؛ لأنني أنا المرجع الذي صنع الصنم الأول، وهذه حريتي مستمدة من صَنَمِيتي.
2-فَلَم تختلف حالة الجحود التي افترى فيها المجرمون الصنمَ على الله تعالى، وكانوا أصناما غير مباشرين، وبين أولئك الذي ادعَوا الصَّنَمية مباشرة، وقالوا لنا حق التشريع والتحليل والتحريم، ولا علاقة للسماء بنا، ولا نبتغي الزلفى عند ربنا، وسمَّوا عبوديتهم لأهوائهم الصَّنمية حرية، فحريتهم طَوْر متقدم لعبادة الأصنام، لأن المصدر للأصنام واحد، هو الإنسان الجاحد لربه الإله الواحد، غير أن المشركين الأوائل كانوا أكثر أدبا مع السماء، فقالوا: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.

أولا: صنمية الإنسان غير المباشرة:

كانت الصنمية الأولى تقوم على أساس أن الإنسان يخترع معبودا له بحسب ما يراه مناسبا لبيئته ونفسيته، فتعددت أشكال الدين من عبادة النجوم والكواكب والحجارة وغيرها، بل إن جرأة الإنسان تعدَّت مرحلة الاختراع إلى تحريف الدين الأصيل الذي أصْلُه من الله تعالى، فتم فرض شهوة التجسيم بسبب غلو الإنسان في المادة على عقيدة التوحيد، وتحول دعوة التوحيد إلى عبادة آلهة وأوثان من جديد في الكنيسة باسم الأنبياء أنفسهم افتراء على الله تعالى.

ثانيا: صنمية الإنسان المباشرة:

بعد أن تقدم الإنسان في العلم التجريبي واكتشف أن النجوم والكواكب وغيرها ما هي إلا مخلوقات جامدة ميته، لا تضر ولا تنفع حسبما بين أنبياء التوحيد، قرر أن يضع كل هذه المعبودات التي اخترعها في المتحف جزءا من التاريخ، وأن هذه الأديان التي وضعها أصبحت شيئا من التراث الإنساني، وأن الواقع الجديد يفرض مرجعية جديدة هي الإنسان، وأنه هو الصنم الجديد الذي له حق التشريع والحكم، وأنه لم يعد بحاجة إلى الصنمية غير المباشرة، أن يخترع إلها ثم يفتري على ذلك الإله، ومرحلة التقدم في العلوم الطبيعية تقتضي أن الإنسان هو الحاكم الوحيد في الكون ولا علاقة للسماء بما يحدث على الأرض، وأن الدين هو حالة خاصة لا علاقة لها بنظام المجتمع، وهو ما تقوم عليه النظرة اللادينية (العلمانية) إلى الحياة.

ثالثا: لا توجد حقيقة مطلقة في الصنمية المباشرة:

لقد وضعت الصنمية المباشرة مبدأ أساسا لتحفظ استمرارها، وتتيح لكهنتها من اللادينيين أن يقولوا ما شاءوا وكيف شاءوا، بذريعة أن كل ذلك كان صحيحا في وقته، تلافيا لأخطاء أسلافهم من رجال الدين الذين زعموا أقوالا تبين بطلانها، وهذا المبدأ اللاديني هو أنه لا توجد في هذا الكون حقائق ثابتة، ومن ثم لا أحد يملك الحقيقة، والحق هو المنفعة والمصلحة، وحيثما تمت المصلحة فهي الحق، ولما كانت مصالح البشر ودنياهم متضاربة، أدى ذلك إلى تقديس مصالح الأقوياء وإضفاء الشرعية الدولية عليها، تلك الشرعية التي خاطها الأقوياء من دماء الضعفاء، ووقعت البشرية في دمائها، إلى حد لم تبلغه الإنسانية من قبل، وتمثلت في الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقوياء، ولكن الذي اختلف في عصر الصنمية المباشرة، هو سفك الدماء البريئة، مع استخدام تجاري لألفاظ حقوق الإنسان ومرادفاتها.

رابعا: الإسلام ينبذ الصنمية بأنواعها ويحيي التوحيد:

إن حالة الصنمية المباشرة التي تستمر في جعل الإنسان هو المرجع لم تضف شيئا جوهريا للبشرية في مجال العقائد والسلوك الإنساني، فبعد أن استحل رجال الدين دماء الشعوب وأموالها باسم الآلهة في الصنمية غير المباشرة، سواء كانت الدين وضعيا أم سماويا محرفا عبثت به أيدي الرهبان ليشتروا به ثمنا قليلا، استحلت الصنمية المباشرة دماء الضعفاء وأموالهم باسم الشعب وأنهم الشعب والشعب هم، ذلك الشعب الذي أصبح صنما تجميعيا من فُــتات الأفراد المستألهين، الذي نازعوا ربهم وخالقهم صفاته الألوهية في أحقيته بالأمر والنهي، ونسيت تلك الآلهة المستعملة أنها لم تكن يوما شيئا مذكورا، وأنها خلقت من نطفة إذا تمنى.

خامسا: الصنمية المباشرة أسوأ أنواع العبودية:

ظن من نازع الله في حقه أنه هو الهادي للبشرية، وبغير هديه يصبح الإنسان كائنا اقتصاديا مستعبدا لدنياه، وشهواته التي تَجْنَح به ذات الشمال، وأن ديدنه في الليل والنهار أن يشبع تلك الغرائز بالطريق الحرام، وأن هذه هي حريته، وكيف يشبع شهوة لا حد تنتهي إليه، وكلما حاول إسكات نهمها بالغت في استعباده، جنسيا، واقتصاديا، حتى أصبح ضحايا الجنس المحرَّم يقاربون ضحايا الحربين العالمية والثانية، أما شهوة المال الجارفة المستحلة للربا والغرر، فقد أوقعت اقتصاده في شَرَك الأزمات المالية المتعاقبة، على شكل فقاعات اقتصادية، فتراهم يفتنون اقتصاديا في كل عام مرة أو مرتين.

سادسا: العقوبة من جنس العمل:

1-نسي هؤلاء الناس أنهم عندما جعلوا الإنسان هو المرجع للحرية، ولا حق للسماء فيما يجري على الأرض، أن الإنسان ظلوم جهول، هلوع منوع، فسادت الحروب والأمراض الجنسية والكوارث الاقتصادية، وانتشر رق القروض الذي ترزح تحته شعوب بأجمعها، وانهارت الأسرة وتفككت، وأصبح الإنسان وحيدا بلا عاطفة صادقة، حياته الشهوة والأنانية في فردية مَــقِــيته، فكان هو الجاني والضحية في الوقت نفسه، وكان هو الخاسر الوحيد في استدباره الإيمان بالإله الواحد.
2-وأصبح الواقع المُزْري هو المؤسس للثقافة، والمنتج للسلوك، فأصبح الإنسان عبدا للواقع، وزعموا زورا أن الواقع الموجود هو نتاج قوانين طبيعية كالفيزياء والكيمياء لا بد من الإيمان بها، وعبثا من يحاول تغيير تلك القوانين، وذلك في حالة مشابهة لرجال الدين الذين جعلوا الخضوع للواقع المريض هو قَدَر إلهي لا فكاك منه، بينما اللادينيه (العلمانية) قالت إنه قانون طبيعي، في ضوء الفلسفة الوضعية الحديثة، مما يؤكد أن الصنمية المباشرة لم تختلف عن الصنمية غير المباشرة إلا في الألفاظ، وبقيت في جميع الأحوال مرجعية الإنسان المعزولة عن الإيمان بالإله الواحد هي المرجعية في الحالتين.
 

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
عمَّان المحروسة
الأحد 28-9-2014

2 thoughts on “بين عبودية الصَّنم وصَنَمِيـَّـة العَبــْـــد

  1. أغسطس 5, 2018 - الشيخ مثنى الراوي

    جزيت خيرا فضيلة الدكتور وليد رفع الله قدرك واعزك وفتح عليك حقا الصنمية المباشرة أشد خطرا واكثر دهاء وخبثا من الصنمية غير المباشرة

  2. أغسطس 5, 2018 - الشيخ مثنى الراوي

    جزيت خيرا فضيلة الدكتور وليد حفظك الله واعزك ورفع قدرك فحقا الصنمية المباشرة أشد خطرا واكثر دهاء وخبثا من الصنمية غير المباشرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top