الجزء الثاني: ما أسباب اضطراب الفتوى، الاختلال بين النص والمقاصد صرف أموال الفقراء في الدعوة إلى الله تعالى … هل هو مقاصدي فعلا؟!

أولا: عرض النص الشرعي في مصارف الزكاة:

1-فسرت المدارس الفقهية الأربع مصرف في سبيل الله في آية سورة التوبة  بالمعنى الخاص، وهو القتال والغازي في سبيل الله، لأن حملها على المعنى العام في كل وجوه الخير ينفي الحصر المنصوص عليه في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)، ويجعل تقسيم هذه المصارف وحصرَها حشوا في كتاب الله تعالى على فرض صحة أن مصرف في سبيل الله هو في وجوه الخير عامة، بسبب عدم ملاحظة أن مصرف في سبيل الله جاء مذكورا بين هذه الأصناف التي التي لم يرض الله تعالى فيها بقِسمة أحد إلا بقسمته هو سبحانه وتعالى.

2-ومع اتفاق مدارس فقه السلف الأربع على هذا الحصر، وهو الغازي والقتال في سبيل الله، بقوله تعالى (إنما الصدقات)، ووأنه لا يصح حملها على المعنى العام وهو وجوه الخير، إلا أن المقاربات العقلية التي تتجاوز دلالة النص الشرعي، التي هي دلالة لغوية في تمام الصراحة، حوَّلت هذا المصرف إلى المعنى العام، في كل ما يراد به وجه الله تعالى، وهو ما يَفرِض ركاكة غير مقبولة على النص الإلهي، إذا لا فائدة من التقسيم والحصر بقوله تعالى (إنما الصدقات)، ثم جَعْل  مصرف في سبيل الله تعالى بمعنى وجوه الخير في الدعوة إلى الله تعالى وتحفيظ القرآن الكريم، وبناء المساجد، والمستشفيات.

ثانيا: علاقة المقاصد الشرعية بالنص الشرعي:

1-الأصل الذي ثبتت بها المقاصد الشرعية هو النص:

إن المقاصد الشرعية ثبتت عن طريق تتبع النصوص الشرعية، فوجد العلماء أن الشريعة ترعى مقاصد كلية منها حفظ الدين والعقل والنفس والمال والعرض، وهذا يعني أن الأصل الذي ثبتت به المقاصد الشرعية هو النص، ويجب اتباع الأصل دائما، ولا يصح أن يُلغي الفرعُ الذي هو المقاصد، الأصل الذي أثبته وهو النص، وإن ألغى المقصد الشرعي النص، فهذا يعني أن الولد عاق قد قتل أباه.

2-المقاصد الشرعية هي معنى في العقل يظهره النص في الواقع:

إن المقاصد هي مفاهيم عامة في الأذهان، وهي في جلها متفق عليها بين البشر، فنحن المسلمين لانختلف عن بقية الناس في كثير من هذه المقاصد، ففي حفظ النفس مثلا هذا لا نختلف فيه مع اليابان والصين، وأوروبا وأمريكا، وكل الدنيا، وهذا مفهوم عام لا يصلح أن يكون دليلا في الشرع، فأوروبا مثلا تعتبر القصاص جريمة ضد الحياة، وكثيرون من الجاحدين لرسالة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم يعتبرون حد السرقة هو عدوان على النفس، وأن حفظ النفس يقتضي عدم قطع يد السارق، بينما اعتبر الإسلام قطع يد السارق بشروطه الشرعية عدل في دين الله تعالى، مما يعني أن المقاصد الشرعية ليست أدلة شرعية، لعموم مفهومها، ولأنها معاني في العقل فقط، ويظهرها في الواقع الدليل الشرعي التفصيلي وهو الأمر بالقصاص، وحد السرقة، وحد الزنا، وهكذا يتحقق المقصد الشرعي في الواقع عن طريق الدليل الجزئي التفصيلي.

ثالثا: دلالة النص الشرعي في تقسيم أموال الزكاة:

حصرت الآية الكريمة مصارف الزكاة، بقوله تعالى:( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)، سورة التوبة، فبدأت الآية الكريمة بأداة الحصر: “إنما” ثم قسمت الزكاة بين الأصناف المذكورة، وجاء مصرف في سبيل الله متخللا بينها، وقد اتفقت مدارس فقه السلف الأربع على أنها ليست في وجوه الخير العامة، حتى لا يهدم ظاهر النص وهو الحصر والتقسيم، ولأن القرآن الكريم منزه عن الحشو وهو الكلام لا فائدة منه إذا قيل إن مصرف في سبيل الله بالمعنى العام، لأن ذلك يجعل التقسيم والحصر أمرا لا فائدة منه، وتفرض الركاكة والضعف على كلام الله تعالى، وهو منزه عن ذلك.

وإذا قيل إن من مقاصد الشريعة جعل في مصرف “وفي سبيل الله” في كل وجوه الخير، يعني هنا أن الفرع وهو المقاصد قد هدم الأصل الذي ثبت به وهو النص، وأصبحنا أما الولد قاتلِ أبيه، وهو عقوق المقاصد لأصلها، وليست المقاصد الشرعية كذلك، وهذه فوضى وفرض لصناعة الاضطراب على الأدلة الشرعية، لأن المقاصد الشرعية ليست أدلة بسبب أنها مفاهيم عامة، ولا تعد معارضا أصلا للأدلة التفصيلية من كتاب وسنة، ويتضح أن هذا مثال على توهم التعارض بين المقاصد الشرعية والأدلة التفصيلية.

رابعا: دعوى مصرف في سبيل الله بالمعنى العام وهدر دلالة النص الشرعي:

إن من شروط الاجتهاد أن لا يعارض النص الشرعي بلا  معارض راجح ، فإن عارض النص الشرعي بلا مسوغ فهذا يعني أنه تحرم به الفتوى والقضاء والعمل، ويترتب على ذلك:

1-عدم إجزاء الزكاة لمن يعطيها للأغنياء بحجة الدعوة إلى الله تعالى لأنه تضييع لحق الفقراء أصحاب المال.

2-عدم جواز أخذها من قبل الدعاة الأغنياء إلا أذا أحبوا أن يرتعوا في أموال الفقراء والمساكين، وبعد ذلك إلى أي شيء سيدعون الناس إليه؟ وهم يتدسمون من أموال الجائعين والعراة من المسلمين الذين ملأ فقرهم البر وقاع البحر فرارا بدينهم وأبدانهم من الظلم والقهر الذي يعانون منهم في ديارهم.

3-يعتبر دفع أموال الفقراء في بناء المساجد ودفع الأجرة للدعاة الأغنياء أو أصحاب العقارات المستأجرة لحساب الدعوة إلى الله، منكرا من المنكرات المحرمة شرعا، ويجب الإنكار على من يقوم بذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.

4-وجوب التحري في دفع أموال الزكاة للفقراء مباشرة ما أمكن، فإن لم يمكن ودعت الحاجة لدفعها لجمعية أو مؤسسة فلا بد من التأكد أن هذه المؤسسة لا تتبنى الرأي الشاذ في دفع الزكاة في وجوه الخير مطلقا، أو اشتراط الدفع للفقراء خاصة، فالاحتياط لأموال الفقراء واجب.

5-إن هذا القول المطلق في تفسير مصرف في سبيل الله تعالى في وجوه الخير قد يفتح الباب على مصراعية للتصرف في أموال الزكاة وفق رؤية خاصة من قبل بعض المعنيين في تفريق الزكاة، وإذا ضممنا ذلك إلى الحالات التي حذرت منها سابقا، فهذا يعني أن هدر أموال الزكاة أصبح أمرا ممنهجا له فتاوى وإدارة وهذا مؤسف حقا!! في وقت نسمع فيه حالات الانتحار بسبب الفقر والبطالة بينما تنفق أموال الزكاة للدعاة الأغنياء، وفي المساجد وغير ذلك.

6- أقول للذين يريدون صرف أموال الفقراء في الدعوة إلى الله تعالى، في أوروبا وغيرها، وما يمكن أن يرافق ذلك من فتح باب ذي عذاب شديد على أموال الفقراء لإقناع غير المسلمين بالإسلام، إن جيوب الفقر  في جنبات الأمة ستصد الآخرين عن الإسلام، وكان الأولى أن نقضي على الفقر، ثم نقول لهم هذا هو الإسلام في الواقع، وليس الإسلام الذي في الصحف والقنوات الفضائية.

خامسا: أسئلة ملحة على تفسير مصرف في سبيل الله بالمعنى العام على أنها رؤية مقاصدية:

1- هل المقاصد الشرعية هي ضد دلالة النص الشرعي وناقضة له، بحيث يُفرض على القرآن الكريم المعنى العام لقوله تعالى : في سبيل الله ، ويصبح التقسيم بدلالة الحصر حَشْوا لا قيمة له، وكتاب الله تعالى منزه عن الحشو، وهو الكلام الذي لا فائدة منه.

2-إذا جازت لنا هذه المقاربات العقلية في النص الصريح، فلم لا تجوز في غيره من النصوص الشرعية الأقل رتبة منه في الدلالة؟ وإذا جاز ذلك للعقل بوهم المقاصد، فما الحاجة إلى استدعاء النص ثم مخالفة دلالته، والرجوع إلى محض النظر العقلي في مقابلة دلالة النصوص الصريحة؟ فلماذا لا ننظر في الأمور عقليا بدعوى المقاصد، ونريح النص من جلبه لمحكمة وهم المقاصد التي تتنتهي برد دلالة اللغة إلى رؤية عقلية تتجاوز النص الشرعي بشكل عنيف وواضح.

3-إذا جاز للعقل ما سبق ذكره من رد دلالة النص الواضحة، فما الذي يمنع أن يرى المقاصدي في مصرف في سبيل الله غير ما رآه اليوم، وهكذا دواليك، مما يعني أننا أصبحنا أمام نظر عقلي بحتْ في أمور الشريعة، وهذا إن لم ينضبط بدلالة النص الشرعي الصحيحة الصريحة، فما هو الضابط الذي سيكون أقوى من كلام الله تعالى بالدلالة الصريحة.

مما يعني أن المرجعية الشرعية أصبحت العقل البشري المستغني عن النص الشرعي، وليس الجمع بين النص والعقل كما هو معروف أصوليا، وهنا تصبح المقاصدية المنحرفة مقاربة مع الفكر اللاديني الذي يزعم أن الإنسان ليس بحاجة للوحي أصلا، مع أنني متأكد بأن من قال إن مصرف في سبيل الله بمعنى وجوه الخير لا يقبل هذه المقاربة، ولا هو كذلك بل أساء من حيث أراد أن يحسن وقصده نبيل، ولكن يجب أن يكون ذلك تطبيقا في التفاصيل وليس في المبدأ فحسب، والمعنيون بجمع الزكاة وتفريقها هم أحق الناس أن يحسن الظن بهم، وأنهم قصدوا الإصلاح.

4-وعلى فرض النظر العقلي الذي تجاوز دلالة النص والحصر الصريح في مصارف الزكاة، فهل من المقاصد أن تنفق الأموال على الدعاة الأغنياء ليعرفوا أوروبا  بالإسلام، أم أن الأولى هو القضاء على الفقر في ديار المسلمين وسيلة للدعوة إلى الله تعالى.

5-هل من مقاصد الزكاة أن تدفع أجورا لمراكز الدعوة والقرآن الكريم للأغنياء مالكي المباني والأساتذة القادرين على الكسب أم الأرامل واليتامي والمقعدين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، أم طلاب الجامعات الفقراء المبدعين الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت؟

6-هل يجوز أن تدفع الزكاة في بناء المساجد، والمسجد هو ملك لله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) سورة الجن، والله غني عن العالمين، ويقول لنا الصدقة للفقراء ونحن نجعلها للغني الحميد وخالق الأغنياء.

7-أم تدفع الزكاة للمستشفيات التي يعالج فيها الأغنياء والفقراء على السواء، ويتعالج فيها الأغنياء على حساب الفقراء بناء على المعنى الواسع لقوله تعالى: (وفي سبيل الله) في الآية الكريمة، أهذا أفضل أم أن يقوم الغني المزكي بزيارة المستشفى، ثم يبحث في سجل العاجزين عن السداد من الفقراء، ثم يسدد عنهم بوصفهم فقراء، أو أن يجعل المستشفى صندوقا خاص بمعالجة الفقراء، مع توفير رقابة مجتمعية صارمة تكفل وصول أموال الزكاة للفقراء فعلا، تامة غير منقوصة.

8-وفي الختام بالرغم من بحثي عن قول خارج مدارس فقه السلف الأربع، له حظ من النص والمصلحة، لأضربه مثالا على أنه لا تحرم مخالفة مدارس فقه السلف الأربع لأن اتفاقها ليس إجماعا، إلا أنني لم أجد، ولا يزال كلام الإمام الذهبي يرِنّ في أذني، وهو أنه يبعد أن يكون الحق خارجا عن مدارس فقه السلف الأربع وإن لم تكن إجماعا تحرم مخالفته، ولم أر كذلك مقاربة مقاصدية تعارض النص كفاحا، إلا كانت غير مقاصدية فعلا بل هي ضد المصلحة فعلا، وأنها مصلحة متوهمة لا حقيقية.

مقالة ذات علاقة: كيف يمكن شفط أموال الزكاة من جيوب الفقراء إلى بطون الأغنياء

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه الفقير إلى عفو ربه غفر الله له ولوالديه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة: 13-5-2016

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top