الجزء الثاني: علم أصول الفقه بين التجديد والتهديد … مع التوجيهات الأصولية في عقول الصغار والكبار

ذكرت في الجزء الأول  أن التجديد في أصول الفقه كان أمر معروفا وطبيعيا في تاريخ علم أصول الفقه، ومع ذلك لا بد من معرفة أن لهذا العلم مرتكزات عقلية، هي بديهة  العقل، وأن بعض محاولات التجديد كانت هدمية، تتجاوز المرتكزات العقلية البدهية التي قام عليها هذا العلم، وضربت مثلا لذلك ، بفهم الأطفال للنص العام والخاص، واليوم سأتحدث عن نموذج آخر، واخترت اليوم حديثا يمكن أن يجري في أي بيت، بصرف النظر عن كون أهله مسلمين أم لا، من أية ملة كانت، وغايتي هنا أن أبين العقل على سويته التي خلق الله البشر جميعا عليها، واسمح لي بضرب الأمثلة.

أولا: مثال النص المطلق والمقيد في العقل البَدَهي (نسبة إلى بديهة):

1- طلب رجل من أولاده دون تحديد واحد معين منهم، أن يحضروا له كتابا، ولم يحدد نوع الكتاب، فجاء ولد  بكتاب أدب، والثاني بكتاب تاريخ، والثالث بكتاب علوم، والرابع بكتاب رياضيات، ولكن جميعهم اتفقوا على أن يأتوا بكتاب، ولكن الوالد، ، على سبيل التجربة لفهم الأولاد لكلام أبيهم،  أعرض عن أخذ أي كتاب من هذه الكتب، فقال لهم ليس هذا الكتاب أريد ولا ذاك الكتاب، فسيطلب الأبناء  منه أن يقول: الكتاب الذي يريد، وأن يذكر قيدا كأن يقول كتاب أدب مثلا ، فإن قال الأب: لا، أنا أريد كتاب جغرافيا، فسيقولون له أنت لم تقيد، ونحن أتينا بكتاب حسب الأمر، وأنت لم تقيد بنوع كتاب معين.

2-وإذا طلبنا من أم الأولاد أن تحكم بين الأولاد وأبيهم، فستقول للأب أنت لم تحدد كتابا مسبقا، وطلبت كتابا فقط، والأولاد أتَوا بما طلبت، وكل منهم قد استجاب لك، وعندئذ يدرك الأب والقاريء أن العقل الفطري في قلوب الأطفال وأمهم والأب، هو أداة لفهم كلام الناس بعضهم بعضا، بهذه البداهة المركوزة في جِبِلَّة الإنسان، وقد تحقق الأب من ذلك في المثال المبين أعلاه، وهذا المثال يمكن تكراره في كل بيت بصرف النظر عن دين أهله مسلمين أم لا.

ثانيا: النظرة الإلحادية هي تدمير لقواعد التفكير الإنساني:

ولكن ماذا لو أن الولد الخامس أحضر كرسيا بدلا من الكتاب، وأحضر السادس طاولة، وأحضر السابع قلما، والثامن رغيفا، فكيف سيكون المشهد؟ قال الخامس: يا أبي صحيح أنك طلبت كتابا لكنني رأيتك واقفا، فقلت إن الواقف يحتاج إلى كرسي للراحة، وهذا من بر الوالدين وأنت تعلم فضل بر الوالدين يا أبي، فأنا أعملت العقل، والنظر في العلل فتوصلت إلى نتيجة أنك بحاجة إلى كرسي وليس كتابا، وقال السادس: أما أنا فأحضرت طاولة لأنني قلت لعلك تقصد شيئا تريد أن تكتب عليه، فقلت: الطاولة أفضل، فلا بد من التعمق في النظر والعقل يا أبي، أما السابع، فقال: ظننت كأخي أنك تريد أن تكتب، فتأولت الكتاب الذي طلبته بأنه قلم، لأنني قلت إن مقصدك هو القلم، لأنك تحب الكتابة والخط، وأما الآخر، فقال: شعرت يا أبي بأنك جائع، وقرأت كلامك عن طلب الكتاب قراءة متأنية،  فوجدت أنك بحاجة إلى رغيف حتى تركز أثناء كتابتك وهذا هو قصدك من طلب الكتاب! وعندئذ تشعر نفسك أمام نظرية متكاملة في الانحراف الفكري، وهذا هو شأن الأفكار اللادينية المنحرفة عن النبوة، توحي لك بأنها متكاملة وعلمية، ولكنها هي هواجس أصحابها ليس لهم عليها برهان، وهي انطباعات شخصية فقط.

ثالثا: الإلحاد وتدمير قواعد التفكير الإنساني:

1-إذا لا حظنا الأولاد الأربعة الأوائل وجدنا أن الجميع متفقون ومتجانسون فيما أتَـوا به، وأن الأولاد قد أتوا بما عليهم من الأمر، لأنهم جاءوا  بالمطلوب وإن تعددت أنواع الكتب التي جاءوا بها، وأمر الأب بإحضار كتاب واضح في أن المطلوب هو كل ما يقال له كتاب، فكانوا مصيبين في الاستجابة، فجاء كل منهم بكتاب، ولم يخرجوا على طاعة الأمر، وكلهم طائعون لأنهم أتوا بفرد من أفراد المطلق وهو كتاب.

2-أما الذين جاءوا بالطاولة والرغيف والقلم والكرسي، فهؤلاء دخلوا في أمر خفي مغيب لا يعلم، وجعلوا كلام أبيهم في طلب الكتاب خلف ظهورهم، وتركوا الأمر الصريح البين الواضح، وتعللوا بعلل خفية لا دليل عليها، وهذا شأن الإلحاد دائما، ينكر الواضح والبين، ثم يفترض افتراضات غيبية لا دليل عليها إلا الوهم، ثم يرجمون  بالغيب من مكان بعيد، يعني  إن الإلحاد لا يؤمن بالغيب المبين بالوحي، ولكنه عندما يأتي إلى نصوص الوحي، يخترع غيبا عشوائيا، ثم يخبط خبط عشواء، بلا بينة ويفترض إفتراضات لا أساس له من نقل ولا عقل، ثم يغرق في الوهم ،ويزعم أن عشوائيته وفوضويته تلك هي فكر حر.

رابعا: التعليلات الخفية لرد النص الشرعي هي طريقة الشيطان:

أمر الله تعالى الشيطان أن يسجد لآدم عليه السلام، ولكن الشيطان أبى السجود، فلما سأله الله تعالى عن سبب عدم سجوده، علل الشيطان ذلك بوهمه أنه علة مشروعة، فقال: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) سورة الأعراف، وهكذا يفعل الملاحدة، يأتون إلى النصوص الشرعية، ثم يغمسون أنفسهم في الغيب العشوائي بزعم العلل الخفية، مستخدمين ألفاظ الشرع، كالعدل والحكمة، والمصلحة، ليحسِب المسلمون كلامهم من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، وقذفهم بالغيب من مكان بعيد ينتهي بإهدار النصوص الشرعية وردِّها، كحديثهم في الميراث، والقصاص، والحدود الشرعية الثابتة بالنص والإجماع.

خامسا: فماذا بعد الحق إلا الضلال:

1-من الواضح أن لكل ولد جاء بكتاب وإن كان مختلفا عن كتاب أخيه، أن له مستندا يحتج به كما حكمت بذلك الأم، وأنهم مقيدون بكل ما يسمى كتابا، فالتعدد متجانس في تنوع الكتب التي أحضروها، وهو أيضا أعني التعدد هنا طاعة واستجابة ، أما الأربعة الآخرون لم يكن لهم ضابط يضبطهم، لا في طاولة ولا كرسي، على طريقة الرجم بالغيب، إذ  لا يوجد ضابط للخطأ والصواب في تعليلاتهم المزعومة،  حتى لو جاء أحدهم بكيس الزبالة وألقاه في حجر أبيه، وقال يا أبي هذا الكيس لتضع فيه بقايا الرغيف بعد الأكل، لا نستطيع أن نقول له إنك مخطئ.

2- فبعد الباطل الذي ارتكبوه، وهو الخروج عن اسم الكتاب، لا يوجد  حَدٌّ يمكن أن ينتهوا إليه في أي شيء يمكن أن يأتوا به ولو كيس القمامة، وهم أصحاب شهوات عارمة، يأتون للأمر الواضح البين، ثم ينسجون حوله الشكوك لإخراج الناس إلى الفراغ، إلى أي شيء المهم أن لا يصيبوا الحق وأن يبعدوهم عن الشرع، وقد ذكر الله تعالى لنا سلفهم من بني إسرائيل، حينما أمرهم بذبح البقرة، ثم شرعوا في حياكة الشكوك والأسئلة، لإثارة الزوابع حول النص الشرعي البين وهو البقرة، والملاحدة اليوم ليسوا إلا صورة مستنسخة، من سلفهم من عتاة بني إسرائيل.

سادسا: تشابهت قلوبهم:

يخال المسلم اليوم أن الفكر اللاديني يناصب العداء للأديان الوضعية الباطلة والمحرفة، ومع ذلك يتساءل ما سر توافق الأمم وتكالبها على هذه الأمة، وكأن الأمم قد رمت أهل السنة والجماعة عن قوس واحدة، ويتساءل: هل الفكر اللاديني يعادي الكهنوت القائم على رجال الدين، الذين يدّعون العصمة في الفرق الباطنية، وهنا أسأل السؤال الآتي ما الفرق بين القراءة الباطنية للقرآن الكريم، وقراءة الفكر اللاديني المنكر للأديان، فكلاهما هجر النص وتأوله تأويلات باطنية بعلل خفية لإسقاط النص، كما حاولت بنو إسرائيل من قبل في قصة البقرة ، عندما قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، وكلاهما: رجال الدين ورجال اللادين خرجوا عن الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فقد تشابهت قلوبهم في الباطل، فلا فرق بين  هؤلاء جميعا الذين تأولوا النصوص الشرعية تأويلات بعلل خفية، لأنهم اتفقوا على النهاية التي يريدونها، وهي إسقاط الشريعة وإلغائها.

سابعأ: التعددية عند أهل السنة تحت سقف الشريعة:  

1-تعددت اجتهادات أهل السنة والجماعة التي اتفقت على قوانين ملزمة في التأويل، وأجمعوا على أنه لا يصح ترك ظاهر النص إلا بدليل ، وقد ذكرت طرفا من تأويلاتهم في سلسلة حلقات حوار مع أخي، وبينت انضباطية أمتنا في التلقي عن الوحي بشقيه: الكتاب والسنة، وأن تعدد مدارسنا الفقهية السنية الأربع جاء استجابة لما أذن به الشرع، من تعدد الاجتهاد وفق قوانين تحكم سير الاجتهاد في إنتاج الحكم الفقهي، الدائر بين أجرين للمصيب، وأجر واحد للمخطيء، وأن مدارسنا الفقهية الأربع هي رائدة التجانس، وصانعة الاستقرار وضابطة للمعرفة الشرعية.

2-لذلك يسعى الفكر اللاديني ليفرض علينا تعدد الباطل غير المتناهي، ويرفض التعدد الحق تحت سقف الشريعة، فليس الصراع بين التعدد والنظرة الأحادية، كما تزعم طائفة اللادينيين، إنما الصراع بين التعددية المشروعة في الإسلام مع الفوضوية في الفكر اللاديني، فالإلحاد يريد أن يهدم التعدد الحق على النحو الماثل في الأبناء الذين أحضروا الكتاب، ليفرض فوضى التعدد التي لا ضابط لها، حتى لو جاء أحدهم بكيس الزبالة بدلا من الكتاب، فشتان بين تعدد السعة والمغفرة في شريعتنا، وبين تعدد الباطل في إلحادهم.

الـنــتــيـــجـــة: يلاحظ أن الناس بصرف النظر عن دينهم متوافقون في كلامهم على أن الكلام المطلق يبقى مطلقا، وأن دلالة كلمة الكتاب مثلا لا تعني بحال شيئا غير ما يطلق عليه لفظ كتاب، وهذا بديهة مركوزة في عقل الإنسان، وأن الأب لو قيد فقال كتاب أدب، فلا يصح عندئذ الإتيان بكتاب تاريخ، وتعليل الأوامر الشرعية بتعليلات خفية هو تمهيد لإسقاطها وإلغائها، كما فعل الشيطان وعتاة بني إسرائيل، وهذا محل اتفاق بين رجال الدين في الفرق الباطنية ورجال اللادين المتمردين على الإيمان والساجدين في معبد الإلحاد، ومن لفّ لفَّهم من العصاة الجدد.

مقالة ذات علاقة: الجزء الأول: علم أصول الفقه بين التجديد والتهديد، جولة في المدارس الابتدائية في الصين ومجاهيل إفريقيا.

 الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عَبْـدُ ربِّه وأسِيرُ ذنْبِه

د. وليد مصطفى شاويش

غفر الله له ولوالديه

عمان المحروسة  

صبيحة الجمعة المباركة 27-5-2016

2 thoughts on “الجزء الثاني: علم أصول الفقه بين التجديد والتهديد … مع التوجيهات الأصولية في عقول الصغار والكبار

  1. يونيو 16, 2019 - غير معروف

    جزاكم الله خيرا كل المحبة والاحترام أستاذنا الفاضل.. حفظكم ربي بحفظه وأيدهم بتأييده

  2. يونيو 17, 2019 - عقاق محمد

    باراك الله لك في هذه المقدمة التحليلية للباب من أبواب الدلالات اللفضية . لقد افدتنا وهديتنا الي وجهة شيقة .سننتظر ونواصل متباعة الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top