الاستنزاف الفكري في المواسم الدينية (رؤية الهلال)

تمهيد:

ما زالت حرب تحري هلال شوال لم تضع أوزارها، وإن كانت ستنسى بعد قليل بحكم الزمن، ولكننا بالتأكيد سنكون مع موسم ديني آخر، وحلقة جديدة من إشكالات الشحن والتفريغ الديني الذي ينتهى كالمعتاد إلى عدم الإثبات وعدم النفي، أي الحالة العدمية، ثم ما تلبث أن تعود المواسم في أوقاتها المعتادة من العام القادم، ثم حالة الشحن والتفريغ وهكذا، استنزاف دائم يؤول إلى حالة العدم.

أولا: الصلاة بغير وضوء ومثال للتوضيح:

ماذا لو أن رجلا تعمد الصلاة بلا وضوء ثم تبين أنه على وضوء،ألم يوافق الشرع في نفس الأمر، نعم وافق الشرع في نفس الأمر لكنه قصد المخالفة، فهذا محاسب على قصده مخالفة الشرع وإن وافق الشرع في نفس الأمر، وفي الصورة المقابلة، ماذا لو أن أحدهم أقدم على الصلاة ظانا الطهارة وفي نفس الأمر ليس على طهارة ولقي الله تعالى على ذلك، فهل هو معذب يوم الدين لأنه خالف في نفس الأمر، أم هو في عفو  الله ورحمته، بل هو في عفو الله ورحمته، لأنه مكلف بإصابة الشرع في ظن المكلف لا في نفس الأمر، وعليه، فإن علينا أن نميز بين الفرض الواجب علينا: هل هو القطع بإصابة الحق في نفس الأمر (في الواقع)، أم إصابة الحق في ظن المجتهد مع صحة مسلك الاجتهاد.

ثانيا: ما أسباب حالة الاستنزاف في أمر الهلال:

1-إن السبب الأول هو محاولة القطع في بدء الشهر على ما هو عليه في الواقع، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بقولهم (في نفس الأمر)،مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الفلكيين اختلفوا في حالة بداية الشهر القمري هل هو المحاق، أم تولد الهلال ولو لم يمكن رؤيته بالبصر والمرقاب (التلسكوب)، أم الهلال حيث يمكن رؤيته بالبصر أو بالمرقاب، وإن كان القول الثالث هو الأوفق بنصوص الشريعة.

2-أما السبب الثاني وهو طريقة ثبوت الهلال من الناحية الشرعية، التي تبدأ بالشهود العدول، والرفع للحاكم للتأكد من صحة الرؤية وعدالة الشهود، حسبما هو معروف في أصول التقاضي الشرعية، ثم الإعلان عن ثبوت أول الشهر من عدمه، فإن لم تثبت الشهادة حسب أصولها استصحب الحاكم الحكم السابق كإتمام شعبان أو رمضان ثلاثين، بصرف النظر وافق نفس الأمر أم لا، لأنه مخاطبة بصحة أصول الاجتهاد وليس الموافقة في نفس الأمر.

ثالثا: لم نكلف بإثبات الشهر على ما هو عليه في نفس الأمر:

1-عندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الشهر ثلاثين إن غم علينا، فهذا يعني أنه يحتمل أن يكون الثلاثين من شعبان في أصول الاجتهاد هو الأول من رمضان في نفس الأمر، والثلاثين من رمضان أصول الاجتهاد هو الأول من شوال في نفس الأمر، ومع ذلك أمر الشارع بدليل الاستصحاب، وهو أن نُتِمّ الشهر السابق ثلاثين بالصيام مع قيام الاحتمال في نفس الأمر وهو أنه اليوم الأول من شوال، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ولو طُلِبت الإصابة في نفس الأمر وتوقف الشرع عليها لأعلمه الله تعالى، ولكنه يسن لأمته من بعده، إذا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

2-يبين الشارع ذلك ليعلمنا أن المفروض علينا ليس الإصابة في نفس الأمر، وهو ما عليه الواقع الحسي، لأن هذا يشق علينا ولا سبيل إليه، وقد اضطرب فيه الناس كما ترى، بل كُلفنا بأن نلتزم أصول الاجتهاد في إثبات الشهر، لا إصابة الشهر كما هو عليه الأمر في الواقع، ولكن أمرنا باتباع الإجراءات الصحيحة في الإثبات، ونحن معذورون بعد ذلك في ظننا القائم على أصول شرعية في الإثبات.

رابعا: ماذا لو خالفنا الشرع وطلبنا الحق في نفس الأمر (وهو الواقع):

إذن نحن كُلِّفنا باتباع أصول الاجتهاد الصحيحة، لا أن نتيقن الأمر بما لا مجال للشك فيه وهو القطع في نفس الأمر، لأن ذلك يتنافى مع أصول الاجتهاد الفقهي القائم على غلبة الظن، أو الظن الراجح الذي يجب العمل به، فإن طلبنا القطع فيما لا قطع فيه انتهينا إلى عدم القطع، ثم الرِّدة إلى الرأي والرأي الآخر، أي إلى حالة الشك وليس الإثبات، وفي جميع الأحوال هي حالة الشحن والتفريغ في المواسم الدينية التي أصبحت زوابع تنتهى إلى عدم، ثم تُنسى لتعود من جديد في العَرْض القادم.

خامسا: أسئلة لمن يطلب القطع بالصواب في نفس الأمر:

ماذا لو أن  ما فعلناه بطلب القطع  في ثبوت رمضان وشوال في نفس الأمر فعلناه مع صلاتنا، هل خرجتَ من صلاتك وأنت على يقين بما لاشك فيه أنها تامة الأركان والشروط بلا أدنى احتمال،  أم أنك تعمل على ظنك الغالب في أنك أصبت الشرع في أدائها، لا على ما هي عليه في نفس الأمر، وماذا لو أنك عُرض عليك يوم الدين الصلوات التي صليتها بلا طهارة نسيانا أو نسيت أحد أركانها،هل تكون محاسبا حسابا عسيرا لأنك لم توافق الشرع في نفس الأمر، أم أنك محاسب على ظنك على على نفس الأمر؟ الأمر واضح أنك مكلف بما في ظنك الغالب لا بما في نفس الأمر.

سادسا: طلب القطع في نفس الأمر يفجِّر الشريعة من الداخل:

1-وقل مثل هذه الأسئلة  فيمن شرب ناسيا في رمضان، ومن نسي صلاة لم يتذكرها حتى مات، والقاضي الذي حكم بقضاء الدين لعدالة الشهود مع احتمال كذبهم، وهذا في كل القضاء، فلن يثبت حكم قضائي شرعي واحد، إن طلبتم القطع  بالصواب في نفس الأمر،  وهنا تنسف الشريعة من داخلها لا من أعدائها، ولأفضت هذه الطريقة إلى العدم فلا قطع بالإثبات، ولا نفي للشك، ثم تسود الثنائية في الفكر الغربي بين رجال الدين بالقطع، ورجال اللادين بالشك، والفقه الإسلامي ظن راجح لا من هذا ولا ذاك.

2- وهذه الثنائية المترددة بين القطع والشك في محل الاجتهاد الفقهي هي مستنقع الإلحاد الذي لا يثبت فيه صوم ولا فطر ولا قضاء ولا شهادة ولا صلاة ولا حج، ولا صحيح البخاري ولا صحيح مسلم، وأصبح عامة المسلمين في شك لا ثقة بعدة بسبب طلب القطع في نفس الأمر، وها هو موسم الهلال قد أزف على الرحيل وعامة المسلمين في شك من صيامهم، فماذا تريدون فتنة بالعامة أكثر من ذلك؟

سابعا: تناقضات القطع والشك في محل الاجتهاد هي ديدن العولمة:

1-عندما تكلمت سابقا عن حكم الاجتهاد الفقهي وصحيح البخاري، بينت أن سبب التشكيك في المرجعية الفقهية السنية   هو طرحها للمناقشة بين ثنائيات العولمة الغربية القطع لرجال الدين والشك لرجال الدنيا وأن الفقه الإسلامي وكتب السنة قائمة على رتبة ثالثة وهي الظن الراجح، ويجب أن تناقش في بيئتها الأصولية لا في مستنقع ثنائيات القطيعة من القطع والشك في الفكر الغربي .

2-وإذا طرحت الشريعة بين ثنائية القطع والشك ستُمزق كل ممزَّق، لأنها ليست قاطعة مع رجال الدين المعصومين، ولا شكا مع رجال اللادين، ولكنها في رتبة الظن الراجح الواجب العمل به، ومن هنا علينا أن نخرج من كليات العولمة الغربية في أمور الشريعة، وعلينا أن نسلك مسالك الاجتهاد الخاصة بأصولنا، فالمجتهد مأجور وإن أخطأ بشرط أن يكون سلك المسلك الصحيح للاجتهاد وإن أخطأ فله أجر واحد، وهذا ما لا تتسع له العولمة الغربية.

ثامنا: خطورة بعض أنماط التدين المعاصرة على الشريعة:

1-ليست حالة إثبات الأهلة والصراع الناجم فيها حالة فردية خاصة، بل هي حالة نمطية تعتور بعض مظاهر التدين المعاصر، وقد انعكست على الدين بصفة عامة، فعندما يقول لك أحدهم هل البخاري معصوم، وهل أبو حنيفة معصوم، فإنه يمهد بهذه المقدمة من أجل التحلل من السنة والمذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة لأن أئمة السنة والفقه ليسوا معصومين، مع أن دعوى العصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعرف عند أهل السنة والجماعة، بل هي علامة على تأثيرات دخيلة على أهل السنة والجماعة.

2- وبعد التقديم بعدم العصمة لأئمة السنة والفقه تبدأ مرحلة إعادة إنتاج المتدين الفرد، المطابق لمقاييس العولمة حسب نظرة الغرب للدّين، وهو أن التدين حالة فردية خاصة، فكل له دليله، وكل له رأيه الديني، مما غيَّب التدين الجماعي على مستوى المذهب الفقهي الجماعي لصالح المتدين الفرد، القابع تحت  الجذر التكعيبي للعولمة، صاحب النزعة الفردية العاكف على المتشابهات يتوهمها أدلة، فصار كقابض على الماء خانته فروج الأصابع.

تاسعا: الدرع الأصولي في بيان الواجب علينا شرعا:

1-وعليه فإن الواجب الشرعي هو صحة مسلك الاجتهاد وبذل الوسع في الإصابة حسب ظن المجتهد، لا القطع على ما هو في نفس الأمر عند الله تعالى، فمن أصاب نفس الأمر عند الله تعالى فله أجران، ومن أخطأ الصواب عند الله تعالى مع صحة مسلك الاجتهاد فهو مأجور، والقطع بالصواب فيما عند الله تعالى مستحيل.

 2وإن إدخال الشك على الاجتهاد الفقهي وجعله من الرأي والرأي الآخر لا يجوز أيضا، بل كلا الاجتهادين ظن راجح، فيهما العفو والرحمة، فاقبلوا من الله رحمته وعفوه، وانبذوا الشقاق وارجعوا إلى أصولكم، والزموا الجماعة، فالتفرق من علامات مخالفة السنة، والجماعة من علامات لزوم السنة، ولا تتكلفوا ما لم تُكَلَّفُوه، وتتركوا ما كُلِّفتُموه، وكما قال الشاطبي: من خرج من حد الشارع لم يعد له حد ينتهي إليه.

3- إن تناقل فيديوهات التشكيك في رمضان وشوال، لا يترتب عليها أثر شرعي لأنها آراء متضاربة، وعلى أصحابها أن يتقدموا بها إلى جهات الاختصاص لطلب الإجابة عليها، أو التداول في الوسط البحثي بين المختصين، وليس تشكيك عامة المسلمين الذين دخلوا في حالة اللاأدرية، ولم يعودوا يعرفون ما يثبت من الدين وما لا يثبت.  

4-إن الشريعة وأصولها الاجتهادية غير مسؤولة عن هذا اللغط حول الهلال صياما وفطرا وحجا، لأن اللغط فارق أصول الاجتهاد واتبع ما لم يكلف فيه بطلب القطع بالصواب بما في نفس الأمر، ولو صح ذلك لم يبق من الشريعة وكتب السنة شيء، وفساد الثمرة يدل على فساد الشجرة، وإن الصواب هو في التأكد من صحة مسالك الاجتهاد في البحث، لا طلب القطع في نفس الأمر عند الله تعالى.

5-إن الدرع الأصولي هو الحصن الحصين للاجتهاد الفقهي الإسلامي القادر على مواجهة جرافات العولمة الثقافية المدججة بالمال والإعلام ويدخن لها موالي الغزو الثقافي، وعتقاء الاستعمار ويحملون لها المباخر للتستر على رائحتها الكريهة.

مقالة سابقة: 

اختلاف الهيئات الشرعية في تحديد رمضان وشوال

 

 

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عميد كلية الفقه المالكي

عمان المحروسة

2-شوال-1440

6-6-2019

1 thought on “الاستنزاف الفكري في المواسم الدينية (رؤية الهلال)

  1. يونيو 6, 2019 - محمد

    بارك الله فبك .. وسدد خطاك .. المقالة المبنية على العلم . مقالة رصينة .. ما شاء الله عنك ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top