إلى المشككين في الحديث الصحيح …كيف يعمل الأصوليون بالحديث الضعيف ويجعلونه أصلا في الدين وقاعدة فقهية

تمهيد:

***عرضت سابقا للحديث عن الصنعة الأصولية وكيفية معالجتها لمصافحة الرجل المرأة الأجنبية، وكيف يمكن أن تحافظ هذ الصناعة على الأحكام الشرعية من الخدش والعبث، في ظل حالة الشك الممنهج في مسائل السنة.

1-لا يخفى على المسلم الحملة التي تتعرض لها السنة والتشكيك في الأحاديث الصحيحة، سواء من جهة سندها، أو تحريف معانيها، وتفسيرها تفسيرا باطنيا، يجمعها جميعا مشترك واحد وهو إدخال الاحتمال على الأسانيد، وفرض أفهام خاصة بلا منهج على معاني السنة، وليس هذا جديدا بل هو قديم، ولكنه قادر على التشكل في ثياب الحداثة والعقلانية التي استحوذ عليها ظلام الشك.

2-ومن باب إبراز الصناعة الأصولية وتكاملها مع الصناعة الحديثية، في حماية السنة وحراستها، فقد رأيت أن أعرض المنهج الأصولي في الرُّقي بالحديث الضعيف إلى مرتبة العمل، لأدلة أخرى خارجة عن الحديث الضعيف نفسه، وأن الصناعة الفقهية تقويه من حيث أدلة أخرى، فإن ظهرت قوة المنهج الأصولي في الحديث الضعيف، فمن باب أولى أن تكون أكثر كفاءة في الحديث الصحيح.

أولا: حديث البينة على من ادعى واليمين على من أنكر نموذجا:

إن هذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، ولا يرقى بنفسه إلى رتبة وجوب العمل به، ومَن نظر إلى الحديث مستقلا فإنه لا بد أن يطرحه لضعف سنده، ولكن صناعة المتن وفهمه هي موضوع أساس في الفقه وأصوله، ومن ثم إن محل عناية الأصوليين هو المعنى، فإن المجتهدين سيحشدون النصوص الشرعية الأخرى، ذات العلاقة بالموضوع، لأن عمل المجتهد العمل على جميع الأدلة، ولا يحل له الإفتاء من نص واحد، حسبما نراه اليوم من الإفتاء بالحديث لمجرد صحته، ورد الحديث مطلقا إذا كان ضعيفا، مما أدى إلا اختلالات كبيرة في الفتوى وتضاربها، وخصخصتها بحسب رؤية شخصية دون منهج فقهي يقوم على أن مراد الله تعالى لا يظهر بنص واحد بل بجمع الأدلة، وهي صناعة ثقيلة، تقوم على النص مدلولا ومعقولا وتنزيلا، لا يحسنها كل من فتح كتابا في السنة، أو فتح الكتاب العزيز وصار يفتي منه.  

ثانيا: شاهد لمعنى الحديث من الكتاب:

قال تعالى في كتابه العزيز: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)سورة الإسراء، وقال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) سورة البينة، فإذا نظرت إلى مجموع معنى الآيتين، عرفت ما يأتي:

1-إن آية الإسراء (15)، تنفى العقوبة بالعذاب حتى يبعث الله تعالى رسولا.

2-إن المشركين لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم البينة، وهذا واضح في آية 1، سور البينة.

3-فسرت الآية (2) من سورة البينة، بأن البينة هي الرسول، بقوله تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2)، مما يفسر آية سورة الإسراء بأن الرسول في (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)  هو بينة حسب سورة البينة.

4-حاصل معاني النقاط السابقة: أنه لا عقوبة إلا ببينة، وهذا أصل عام في الشريعة.

5-يتفرع على ما سبق أن الأصل براءة الذمة، ولا يمكن إلزام المدعى عليه بشيء إلا ببينة، بناء على أصل شرعي عام ثابت بنص الكتاب العزيز.

6-ترتب على ذلك صحة معنى الجزء الأول من الحديث من الناحية الشرعية، فالمعنى صحيح شرعا، وإن كان السند ضعيفا، لأن الشارع شهد لهذا المعنى بالصحة بأصول صحيحة.

ثالثا: شاهد لمعنى الحديث من السنة:

جاء في صحيح البخاري: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ» يوضح نص الحديث الشريف، أن اليمين على المنكر وهو المدعى عليه، وفي حديث آخر في صحيح البخاري: قول النبي صلى الله عليه وسلم ” شاهداك، أو يمينه”، وتعنى المطالبة بالشاهدين أو يمين المُنْكر، ولكن الشاهدان هما جزء من البينات، فقد تكون البينة خطية مكتوبة مثلا، فيبقى نص: البينة على من ادعى أتم في الدلالة على البينات بأنواعها، ومثله اليوم التوقيع الإلكتروني وهو عملية ترميز (تشفير) للرسائل، هو بينة أيضا، ولكنه ليس شاهدا، مما يعني أن الحديث الضعيف (البينة على من ادعى) وإن كان ضعيف السند إلا أنه من حيث معناه صحيح شرعا، ويصلح أن يكون قاعدة فقهية، ولو لم يكن حديثا ضعيفا ولا صحيحا، فليس من شرط صيغة القاعدة الفقهية أو الأصولية أن تكون نصا قرآنيا أو حديثا نبويا.

رابعا: لماذا الأصل: رفع الدعوى مكان المدعى عليه:

لما أثبتت الأصول الشرعية السابقة في الكتاب والسنة أن الأصل براءة الذمة، وأن البينة على من ادعى، فإن هذا يعني أن المدعى عليه بريء الذمة حتى يثبت العكس، وإعطاء المدعي حق أن يقيم الدعوى في المكان الذي يراه المدعي، يعني تكليف المدعى عليه بالسفر والتنقل لحضور المحكمة مع أنه في الأصل بريء الذمة، وهذا يتنافى مع براءة الذمة التي أقرتها الشريعة، وعليه فإن رفع القضية في مكان المدعى عليه ينسجم تماما مع أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، لأن الأصل هو براءة الذمة؟

خامسا: الخلاصة:

1-الصناعة الحديثية تتكامل مع الصناعة الأصولية في حماية معاني الشريعة وألفاظها.

2-لا يحتج الفقهاء بالحديث الضعيف أبدا في الأحكام، وما ورد من أحاديث ضيعفة في مجال الأحكام فإنما لموافقتها أصولا شرعية ثابتة بالكتاب والسنة، فالعبرة بتلك الأصول لا بالأحاديث الضعيفة.

3-بما أنه ليس من شرط صيغة القاعدة والفقهية والأصولية أن تكون نصا شرعيا، بل يكتفى بأن تكون القاعدة مختصرة معبرة، استفاد الفقهاء والأصوليون من صياغة بعض الأحاديث كأسلوب للتعبير، لا على أنها نصوص صحيحة، ومن تلك النصوص: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.

4-على من يطالع في مصادر الفقه الإسلامي أن لا يتعجل بالاتهامات جزافا لفقهنا الإسلامي لأنه يجهل هذه الصناعة، ويحاول أن يطبق عليها الصناعة الحديثية، ثم يضرب صناعات الإسلام المتكاملة بعضها ببعض، ويكون فعله بذلك هدْميا، سواء للصناعة الحديثية أم الفقهية الأصولية.

5-ضرورة إبراز موضوع كل علم وعلاقته مع العلوم الشرعية الأخرى حتى يتسنى لطلاب العلم ملاحظ تكامل العلوم الإسلامية، وأنها جميعا تعمل في اتجاه حماية الشرعية رواية ودراية.

6-الدعاوى هذه الأيام كثيرة ومرسلة عن الأدلة في الفضاء الإلكتروني، ونادرا ما تكون مدعومة ببحث كامل مستقصٍ، يثبت النتائج التي يذهب إليها المتقوِّلون على مدارسنا العلمية الفقهية.

7-محاولة تشويه الفقه الإسلامي بذريعة أن في كتب الفقه أحاديث ضعيفة احتج بها الفقهاء، هي محاولات لا تعرف طبيعة الصناعة الفقهية والأصولية، وجدير بأصحاب تلك المحاولات أن يلاحظوا التكامل بين الصناعتين الحديثية والفقهية.

8-إن علماء المسلمين لم يفرطوا في شيء من كتاب ربهم ولا من سنة نبيهم، فما لم يصلح منها للاستدلال استقلالا قاموا بإدراجه تحت أصول شرعية ثابتة يتقوى بها، وإن لم يجز أن ينسب الحديث الضعيف بلفظه بصيغة الجزم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم.

9-إن آراء المقتحمين ساحة الفتوى من النصوص الحديثية دون صناعة أصولية فقهية، هي آراء شخصية في الدين، لعدم وجود قواعد حاكمة عليهم عند النظر، ولأن مراد الشارع لا يظهر إلا بجمع نصوص الشرعية، وردها إلى محكماتها وأصولها.

10-إن اضطراب الفتوى والمعرفة الدينية وانتشار الفرقة في الدين، هو نتيجة لغيبة تكامل المنهج الفقهي والأصولي والحديثي، بالإضافة إلى ضمور حادّ في علوم اللغة.

مقالة سابقة: هل يوجد نص شرعي صحيح في تحريم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية (ليس الخطأ في الكلي كالخطأ في الجزئي)

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

عمان المحروسة

7-4-2017

 

2 thoughts on “إلى المشككين في الحديث الصحيح …كيف يعمل الأصوليون بالحديث الضعيف ويجعلونه أصلا في الدين وقاعدة فقهية

  1. أبريل 7, 2017 - غير معروف

    احسنت.

  2. يوليو 17, 2018 - غير معروف

    جزاك الله خيرا
    فقد أفدتنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top