إذا كان الجميع يريد العدالة، فما العدالة؟

بالرغم من إيمان الإنسان بمبدأ العدالة وأنها أمر مشترك بين الناس، لا يختلفوا في كونه قيمة عليا، إلاّ أن البشر قد اختلفوا في مصدر العدالة، وكيف تتحقق على الأرض بأحكامها التفصيلية، وتصبح العدالة بهذا الشقاق ضحية الاضطراب البشري في تحديد مصدرها وتفصيلاتها، على نحو تصبح العدالة ظلما وجورا، بل من أقسى أشكال الظلم، وهنا سأضرب أمثلة على أن اضطراب الخلق في مفهوم الحق والعدل هو سبب لكوارث وجرائم نهشت جسد البشرية من غير طائل.

أولا: إقامة دولة إسرائيل في مقدسات المسلمين:

     إذا كانت العدالة تكمن في عقل الإنسان ووجدانه، فماذا إذا قرر الغرب أن يقيم كيان دولة إسرائيل على أرض المسلمين، والإيمان بيهودية دولة إسرائيل، وطرد المسلمين منها، وتوفير ترسانة من قرارات العدالة الدولية التي تشرع السيادة لهذه الكائنات الغريبة في ديار المسلمين ومقدساتهم، بينما يرى المسلمون أن هذا الكيان هو كيان احتلالي غاصب ظالم، وقام على جثث المسملين، في الوقت الذي يدعو فيه الغرب في مواثيقه الأساسية إلى حق الشعوب في تقرير المصير، ويستخدم حقوق الإنسان استخداما إعلاميا مفرطا في في هذه المعركة، والطرف الآخر وهم المسلمون ينادون بالحقوق ذاتها حقوق الشعوب والإنسان، ومع ذلك يحدث كل هذا الصراع، وهذا يعني أن المشكلة ليست في العدالة بوصفها مبدأ، بل في التفصيلات الجزئية التي تحدد ما هو العدل، وتحدد المصدر الصحيح الذي له حق تحديد ما العدالة، بديلا عن الإنسان الذي أقر بالعدالة مبدأ ولكنها اضطرب ما هي العدالة في الجزئيات والتفصيلات.

ثانيا: هل العدالة في الرأسمالية أم الاشتراكية؟

   اتفق البشر على أن نظام الإقطاع للأرض واحتكار الثروة في القلة ظلم وفساد، ولكنهم اختلفوا فيما هو العدل، هل العدل في الملكية الفردية على النحو الذي قرره الفكر الاقتصادي الغربي، أم القضاء على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وتحويلها إلى ملكية عامة بيد الدولة على النحو الذي قرره الفكر الاقتصادي الشرقي، ولا يخفى ما بذلته الإنسانية من عشرات ملايين الضحايا والمعاقين للقضاء على نظام الإقطاع، وانقسم العالم إلى معسكرين متحاربين شرقي اشتراكي، وغربي رأسمالي على أسس عقيدة اقتصادية، وأزهق صراعهما عشرات الملايين في حروب عالمية، بعضها ينتصر لهذا المعسكر أو ذاك.

     وبعد كل هذا الدمار الذي حل بالبشرية في تلك الصراعات اكتشف العمال في المعسكر الاشتراكي أنهم أصبحوا ضحية نظام إقطاع الدولة وأن ثورتهم لم تكن أكثر من تغيير أسماء فقط، حيث أصبحت الدولة وسادتهم في الاشتراكية أسوأ من نظام الإقطاع نفسه، بينما بقي ظلم العمال على حاله مع بعض المسكنات، تتمثل في تغطية بعض الحاجات الأساسية مسكناتٍ تمنع الشعور بالألم في نفوس العمال الذي قد يسبب صداعا لنظام الإقطاع الجديد، الذي استفاد من تجربة نظام إقطاع الأراضي السابق في توفير بعض الحلول الشكلية للعمال، وبعد هذا الكم الهائل من ضحايا الإنسانية، يعود المجتمع الاشتراكي إلى اقتصاد السوق، وإلغاء الملكية الجماعية التي قتل من أجلها عشرات الملايين، بناء على أنها هي الحق والعدل، فماذا يمكن أن يقال لهؤلاء الذي فقدوا حياتهم من أجل عدل تبين أنه سراب وليس إلا فكرا بشريا قد ذهب وقته.

     أما في معسكر اقتصاد السوق الغربي فلم يكن أفضل حالا من أخيه الاشتراكي، فقد رجع نظام إقطاع الشركات الكبرى، وأصبح رأس المال بيد القلَّة، وصار جمهور المجتمع خادما للشركات متعددة الجنسية، وأكثر من ذلك فقد أصبحت الحكومات المتتابعة والمنتخبة من الجمهور سمسارا يبحث عن مصالح هذه الشركات، ويمكن أن تثير الحكومات الديمقراطية حروبا تطحن المستضعفين لصنع فرص ربح لنظام إقطاع الشركات، ناهيك عن نوبات الصرع والأزمات الاقتصادية التي يعاني منها نظام إقطاع الشركات، الذي يستدعي جمهور العمال في الأزمات لدفع ضرائب لإنقاذ السفيه المالي الإقطاعي من أزمته، ومغامراته المالية في أموال المجتمع، وهو يعني أننا نقف أمام طَوْر متقد لنظام الإقطاع الرأسمالي على مرحلة نظام إقطاع الأراضي، وكل ذلك تحت شعار العدالة المتمثلة في الملكية الفردية تحت شعار (دَعْه يَــمُرّ دعه يعمل)، والقوى الخفية للسوق التي هي دين السوق في الاقتصاد الرأسمالي.

إذن لماذا يموت الناس مَثْنى وفُرادى، شعوبا وجماعات طلبا لعدالة بشرية مضطربة في التفصيلات، والناس فيها في حرب ضروس، كلهم يدعي العدالة ويحتكرها، ولكنها في النهاية تشرب من دماء الضعفاء وتتقوى بها، وتعيد إنتاج الظلم من جديد، الذي يقتات على دماء الجماهير التي اضطربت نفسها في تفصيلات العدل، فلما أزالت الظلم وقفت مضطربة، وأحلت ظلما جديدا محل الظلم القديم، فهم يستبدلون ظلما بظلم، وظلاما بظلام، وليست الأمثلة التي ذكرتها سابقا سوى غيضٍ من فيضٍ من حياة الإنسان، ويستطيع الأخ القاريء أن يتصفح واقعنا نحن المسلمين ليعلم حجم الاضطراب الذي نعيشه في هذا العالم، حيث يتحدث الجميع باسم الشعب، والشعب يريد إسقاط الشعب، ومع ذلك كلهم يدَّعي وَصْلا بالعدالة.

ثالثا: الـنُّـبُوات ضرورة قصوى للبشرية:

   إن اضطراب البشر في تفصيلات العدالة وأحكامها الجزئية عبر تاريخهم الطويل في الحروب، التي تستبدل الظالمين بالظالمين، على ركام جثث الضعفاء، يشكل دليلا لا يقبل الشك على العجز البشري عن إدراك تفصيلات العدالة، وأن الإنسان لم يفلح في تطبيق شعار العدالة على الأرض، فَحلْقة الظلم مستمرة على مستوى الأمم والدول والشعوب والجماعات والأفراد، وأن هذا العجز البشري عن معرفة الحق والعدل، يؤكد أن حب العدل فطرة في الإنسان، ولكنه غير قادر بنفسه على الوصول إلى الحق، وأن الإنسان بحاجة إلى إنقاذ ضروري من خارج الدائرة البشرية المضطربة في العدل.

   وبما أن هذا الكون لم يخلق عبثا، وأن له ربا يحفظه ويدبر أمره، فإن الحكمة الإلهية تقضي بأنه لا بد من رسالة إلهية للإنسان المكرَّم عند ربه، يقرر له ما هو الحق والعدل على التفصيل في قضايات فكره وسلوكه، فأرسل له الأنبياء معهم المعجزات للدلالة على صدق الرسالة، حتى يكون الإيمان عن بيـِّـنة لا تقليدا أعمى، وبعد تصديق الرسول يستقبل الإنسان تفاصيل العدالة بأحكام شرعية تفصيلية لحسم اضطراب الخلق في الحق، وأن الحق لا يخرج من الإنسان، الذي ثبت أنه مضطرب فيه، بل إن الحلق لا يعلم إلا من لدن الحكيم الخبير، فالله تعالى هو مصدر الحق والعدل، بيـَّنه على لسان رسوله الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وحمله الصحابة رضي الله عنهم وبلغوه كما سمعوه، ثم أحْكَمت الأمة نقل الوحي وفهمَه في علوم لا نظير لها في الدنيا، صيانة للأمانة والوديعة التي استودعها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع.

رابعا: كلام رائع للإمام الشاطبي (أندلسي: ت 790هـ):

قال الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام: (أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلابا لها، أو مفاسدها، استدفاعا لها، لأنها إما دنيوية أو أخروية، فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل ألبتة، لا في ابتداء وضعها أولا، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق، وإما في اللواحق، لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى، لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض عُلِّم كيف يستجلِب مصالح دنياه؛ إذ لم يكن ذلك من معلومه أولا، إلا على قول من قال: إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى: {وعلَّم آدم الأسماء كلها} ، وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي، ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة، لكن فرَّعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به، ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات؛ إذ لم تَـجْرِ مصالح أهل الفترات [يعني التي لا نبوة فيها] على استقامة، لوجود الفتن والهرج، وظهور أوجه الفساد.

فلولا أن الله تعالى من على الخلق ببعثة الأنبياء عليهم السلام لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين، وأما المصالح الأخروية، فأبعد عن مجاري العقول من جهة وضع أسبابها، وهي العبادات مثلا، فإن العقل لا يشعر بها على الجملة فضلا عن العلم بها على التفصيل، ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية، فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال، فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر به)، ا.هـ، وأظن أن كلام الإمام الشاطبي ليس بحاجة إلى تعليق.

خامسا: أمر غريب:

لا يستغرب المرء أن يضطرب غير المسلمين في تفاصيل العدل، بل يستغرب كيف يضطرب المسلمون في الحكم العادل، وقد أحببت أن يقرأ المسلم اليوم كلام الإمام الشاطبي، وهو يعالج أزمة البشرية المضطربة في الحق والعدل، وهذا الاضطراب يمكن أن يتصور في مجتمعات لا دين لها وليس بين يديها كتاب ولا سنة، وحُرمت تلك المجتمعات من نعمة النبوة، ولكن هذا لا يمكن أن يتصور في مجتمعات إسلامية، حظيت بمعرفة النبوة وهي تتلو الكتاب، وتسمعه في صلواتها، ومع ذلك تطلب الأمة العدالة ولكنها تـَــتِـــيه في مصدرها وتفصيلاتها، وأصبح تدينها -مع الأسف- مقتصرا على الشعائر الفردية، وتعاني من ضعف في التدين الإسلامي المعرفي، ونقص في ثقافتها في مجال التدين العام في المجتمع، فتجدها مرتبكة اجتماعية في فضاء المجتمع سياسة واقتصادا، ومقصرة تقصيرا واضحا في إبلاغ رسالة الحق والعدل في المجال المحلي والعالمي، وما هو أكثر غرابة أنها تركت البيان والعدل المفصل في الكتاب والسنة، واستقبلت الاضطراب في العدل وأصبحت مقلدة في الاضطراب بدلا من أن تكون متخَـلِّية عن موقع الصدارة والإمامة التي بوأها الله تعالى إياها في بيان الحق والعدل والعمل بهما، مع إسلامها واعتقادها بأن ما بين يديها هو الخير والحق.

قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) سورة الكهف، جزء الآية: 29.

وقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)سورة الحديد، جزء الآية:25.

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة

29/5/2015

2 thoughts on “إذا كان الجميع يريد العدالة، فما العدالة؟

  1. مايو 29, 2015 - hamza

    بارك الله فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top